تداولت وسائل إعلامية خبرًا عن تسرب مياه من سقف جامع الصالح بصنعاء، أثناء سقوط الأمطار في الأيام الأخيرة، مشفوعة بصور من داخل الجامع، مع أن الجامع حديثٌ، وقد تم تصميمه وتشييده بأحدث ما توصلت إليه التقنيات الهندسية، وأشرف عليه مهندسون ماهرون. وأتذكر أني قرأت عنه كتابا كاملا صدر عن إدارة الجامع أثناء افتتاحه معززا بالتصاميم والصور الهندسية، تم توزيعه خلال تلك الفترة، إلى حد أن تلك المبالغة في الاعتناء به كانت محل انتقاد البعض.
والذي أكاد أجزم به أن عملية “تهديم” متعمدة قد تعرض لها الجامع بفعل فاعل، أجزم بهذا وبين يدينا نماذج تاريخية عن سياستهم تجاه معالم خصومهم، تتبعتها في كتابي “الهادوية بين النظرية السياسية والعقيدة والإلهية”.
وسأعيد التذكير بها الآن:
أولا : كل جامع أو مسجد سني هو محل ارتياب ديني عندهم، بما في ذلك المسجد الحرام والمسجد النبوي؛ لأنها من آثار كفار التأويل، ولهذا لم يثبت عن إمام واحد من أئمة الهادوية جميعا، وهم أكثر من سبعين إماما أنه حج البيت الحرام، عدا زيارة المسجد النبوي مرة واحدة فقط من قبل الإمام أحمد على هامش حضوره مؤتمر جدة سنة 1956م؛ لأن أي أرض سنية هي أرض نجاسة، ولا يمكن الاحتراز من الرطوبة فيها حد تعبير السفاح عبدالله بن حمزة، وهذا مبرر كافٍ لإسقاط فرض الحج عنهم. انظر: المجموع المنصوري، مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، تحقيق: عبدالسلام بن عباس الوجيه، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، ط:1، 1، 2002م، ص: 135/1.
وفي اعتقادهم أن مكة والمدينة هما دار حرب على الدوام ما دامتا خارجتَين عن سيطرتهم. يقول عبدالله بن حمزة: فأما نحن فعندنا أن كل أرض ظهرت فيها خصلة، أو خصال من الكفر المعلوم بالأدلة، ولا يفتقر مظهرها إلى ذمة من المسلمين ولا جوار، وسواء كانت أرض مكة منزل البعثة أو المدينة دار الهجرة..”. نفس المصدر، ص: 93/1. وطبعا فإن المشبهة والمجبرة “أهل السنة” كفرة، وعدم موالاتهم لما يسمى بآل البيت كفر..! ولهذا هدم السفاح ابن حمزة كل مدارس المطرفية ومساجدها وجعلها أثرًا بعد عين، لهذا السبب، مع أنها قد أصبحت تحت سيطرته بعد إبادتهم والتنكيل بهم.
قبل ابن حمزة كان الإمام المهدي الحسين بن القاسم العياني 376ــ 404هـ، قد أبطل الحج إلى مكة، وحوّله إلى منطقة “عيّان”، في حرف سفيان، علما أن ثمة منطقة أخرى أيضا في حجة تسمى “جبل عيان، ووفقا للإمام أحمد بن سليمان الذي أثبت الواقعة، ثم أراد نفيها بعد ذلك، يقول ما نصه في سياق الحديث عن الإمام الحسين بن القاسم العياني: “.. وحَدّثني مَن أثِقُ به أنه قال له: هل رأيتَ المهدي أنت؟ قال: نعم. قال: كان معي في بيتٍ، ثم قام وتهيَّأ للخروج، فانفلق له جدارُ البيت فخرج منه، ولم يخرج من الباب. وقال: إنه أمره بالحج إلى عيّان، فأقام يحجّ سنينَ كثيرةً، وفتح شريعة الحجّ من مكة إلى عيان، فأقام يحجّ سنين كثيرةً هو وقومٌ من أصحابه قدر مئة رجل ويزيدون. وكانوا يفعلون ذلك في أيام عيد عرفة، حتى قال فيهم شاعرٌ ممن أنكر عليهم:
حَجَّ الأنامُ إلى المحصّب من مِنًى … وإلى مَدَقّة حَجَّ آلُ القاسم
وقد ظلت هذه الفرقة مستمرة حتى القرن التاسع الهجري.
ومدقة هي البقعة التي حج إليها هؤلاء في جبل عيان نفسه، وترد أحيانا بلفظ “المدقة”. انظر: صورة لمخطوط “الحكمة الدرية والدلالة النورية، أحمد بن سليمان، ص: 202.
وقد أثبت هذه الحالة الشيخ محمد عبدالعظيم الحوثي في تسجيل.
وللتأكيد على ما ذكرنا نتوقف أمام ما أورده المؤرخ عزالدين بن الأثير في تاريخه عن الإمام إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الملقب بالسفاك، وهو من نسل الحسن بن علي، بالحجاز، ضمن حوادث سنة 251هـ: “.. وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف… وقتل الجُند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حُمل لإصلاح القبر من المال، وما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة وغير ذلك، وأخذ كسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوًا من مئتي ألف دينار، وخرج منها بعد أن نهبها، وأحرق بعضها..”. انظر: الكامل في التاريخ، عزالدين بن الأثير، تحقيق: عمر عبدالسلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2012م، ص: 231/6.
ليس ذلك فحسب؛ بل نستمع هنا لشهادة مؤرخ شيعي آخر عن أخيه، يقول: “وقام من بعده أخوه محمد بن يوسف، فأربى على فعله في السفك والنهب والفساد”. انظر: عمدة الطالب لابن عنبة، تحقيق السيد مهدي الرجائي، ط:1، 2009م، ص 65.
ثانيا: عقب قيام الدولة القاسمية في العام 1006هـ عمد أئمتها إلى هدم الجوامع والمآثر السنية كاملة في مختلف مناطق اليمن، فأتلفوا وأحرقوا ملايين المخطوطات التاريخية في زبيد وجبلة وإب وحيس والجند والعامرية برداع، وكانت قلعة العامرية ومسجدها آية من آيات الجمال والإدهاش في الهندسة والتصميم والنقوش، ولنستمع هنا للمؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع وهو يتحدث عن الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد صاحب المواهب ت: 1130هـ، وعن مدرسة العامرية برداع، يقول: “كان أول من سعى في خراب هَذِه المدرسة؛ لأنها في اعتقاده من آثار كفار التأويل، وكفار التأويل لا حرمة لهم، ولا قربى، لولا أن القاضي علي بن أحمد السماوي تصدى له بقوة، محذرا إياه من مغبة ذلك، فتوقف المهدي، واكتفى بهدم شُرفاتها بِرا بيمينه؛ لأنه كان قد أقسم على هدمها..! ويلفت المؤرخ والأكاديمي الدكتور محمد علي الشهاري الانتباه إلى نقطة مهمة للغاية من تصرف الإمام المهدي هذا بأن نزوته الطائفية المتصلبة قد ظهرت من أجل إرضاء الدولة الصفوية في إيران. انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي، المعروف بصاحب المواهب، محمد علي دبي الشهاري، مكتبة الجيل الجديد، 2009م. ص: 200. علما أن الإمام المطهر بن شرف الدين كان قد صادر كل أوقاف وأملاك المدرسة العامرية لصالحه الشخصي قبل ذلك.
ثالثا: ذات النهج والسياسة اتبعها الإمام يحيى حميدالدين ونجله السيف أحمد في القرن العشرين، لجوامع تعز وتهامة وغيرها، وهي من بقايا آثار الدولة الرسولية، ولنستمع لشهادة المؤرخ العلامة محمد محمد المجاهد، حيث يقول: “عندما دخل السيد علي الوزير إلى تعز سنة 1337هـ هاجم عسكره مسجد الأشرفية، وبددوا تلك المكتبة، ومزقوا كتبها شر ممزق، ووصل بهم الأمر أنهم قاموا بكشط الذهب الذي يزخرف القباب من الداخل، كما كسروا النجف المصنوعة من الجص.. وعندما ظلت المدرسة صامدة تبادر إلى ذهن الإمام أحمد حميدالدين سامحه الله أن يقيم في مؤخرتها مدبغة للجلود، وهذه أقرب الطرق المؤدية إلى انهيار المبنى، ونفذ الفكرة بخبث عجيب..”. انظر مدينة تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي، محمد محمد المجاهد،ط:2، 2007م، ص: 66.
وفي واحدةٍ من الحماقاتِ التاريخيَّة، وسِيَاسَة الهمجيَّةِ والحقد التي اتَّبعها هَؤلاء أن عمدَ الإمَامُ يحيى عام 1928م، إلى مُصادرة الوقف على أكبر مَدرسَة دينيَّة، عُرفت عند البعض بجامعة الأشاعرة، كانت تُدرِّسُ مختلفَ فنون العلم، في زبيد بتهامة، ولمدينة زبيد شهرتُها العِلمِيَّة التي تجاوزتْ المحليَّة إلى القُطرية، وتوافد عَليْها آلاف المُريدين على ما يزيد عن ثمانمئة عام، وتخرج منها آلاف العُلماء في مختلف المجالات، ولم يبق بعد تلك المصادرة، إلا المدارسُ الصغيرةُ، والكتاتيبُ الأولية؛ وتبع ذلك مصادرة العديد من أموال الأوقاف وإغلاق المدارسِ في أكثرِ من مكانٍ على طول اليَمَنِ الأسْفَل. انظر: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، إيلينا جولوبوفسكايا، دار بن خلدون، بيروت، ط:1، 1982م، ص: 154.
أيضًا.. أقدم السَّيف أحمد حميد الدين نهاية العشرينيَّات من القَرْن الماضي، على هدم ضريح الفقيه الصالح أحمد بن موسى بن عُجيل، في مَدينة بيت الفقيه بتهامة الذي تنتسب له المدينة، وذلك عقب هزيمة الزرانيق في الحرب الشهيرة بينها وبين أبيه، نهاية عشرينيات القرن الماضي، وقَدْ كان هو قائد جيش والده. كما قَام أيضا عام 1943م بهدم ضَريح الولي الصَّالح والزاهد أحمد بن علوان في يفرس بتعز، وتسويته بالأرض، ونقل رفاته إلى مكان مجهول، تحت حُجة محاربة البِدعة، مع أن الأمر غير ذلك، فقد كان يريد تثبيت هَيبته في نفوس النَّاسِ بصورة أكبر، نظرًا لما لضريح هَذا الولي الصَّالح من هَيبة روحيَّة عند الناس، كما يريد هدم أي أثر سني، وفي هذه الواقعة قال الشاعر إبراهيم الحضراني شعرا:
أضريح أكرم ناسكٍ وتقي نبشته كف الماجن البدعي
من بين الآف القبور نبشتَه بغيًا بدون مُسوغٍ شرعي
نبشُ القبور رذيلةٌ وفضيحةٌ حتى لدى البوذي والزنجي
ما ذاك إلا أنه من مَعشرٍ سـُـنيَّة في معشرٍ سُـني
أخيرا.. يهدم ويتلف الحوثيون اليوم كل مأثر جمهوري سبتمبري، وكل مَعْلَمٍ يمنيٍ يرونه مغايرا لهويتهم الطائفية، كسياسة انتهجوها عبر تاريخهم، واتبعوها خلفًا عن سلف. ومن شابه أباه فما ظلم.