إعداد / د. الخضر عبدالله :
> مرور عام على رحيل عبدالناصر..
يواصل الرئيس علي ناصر محمد الحديث حول زيارته الأولى للقاهرة كرئيس وزراء.. وهذه المرة يروي تفاصيل زيارته إلى أسرة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ..حيث قال مستدركا :” جاء يوم 28 سبتمبر 1971م وأنا ما زلت في القاهرة. مرة أخرى كان قلبي مكتئباً حزيناً. عام مرّ على رحيل الزعيم الخالد عبد الناصر. كان عبد الناصر آخر عمالقة هذا العصر، وشغل حيزاً واسعاً من أحداثه وسياسته، وعرفه الناس، لا في وطنه العربي فحسب، بل في كل القارات، ورددت اسمه كل الألسن، سواء كانوا أصدقاءه أو أعداءه. ولهذا عندما مات كان تأثير غيابه قوياً، ونشأ فراغ هائل في الوطن العربي برحيله، وفي اليمن التي دعم ثورتيها في الشمال والجنوب كان الحزن الذي تركه في قلوب الشعب اليمني مؤلماً. ولا بد أن تأثير غيابه سيستمر زمناً طويلاً..
هذا ما كنت أحس وأفكر فيه وأنا في طريقي إلى بيت الزعيم الراحل في منشية البكري حيث قدمت المواساة إلى أسرته بمناسبة مرور عام على وفاته. وهذه هي المرة الأولى التي أزور فيها منزل الرئيس الراحل العظيم ولقاء أم خالد الحزينة ونجله الأكبر خالد وبقية إخوانه الذين فقدوا أباً رحيماً وزعيماً عظيماً، كما فقدت الأمة العربية برحيله قائداً قومياً وهب حياته لمصر وشعب مصر والأمة العربية والإسلامية.
> بيت جمال عبدالناصر
ويسترسل الرئيس علي ناصر في حديثه عن زيارته بيت وأسرة الرئيس عبدالناصر فقال :” بيت عبد الناصر، كما نعرف جميعاً، هو البيت نفسه الذي كان يقيم فيه وهو برتبة «البكباشي»، وهو البيت نفسه الذي بقي فيه حين أصبح رئيساً لمصر وزعيماً للعروبة. وهو أيضاً البيت نفسه الذي خرج منه جثمانه الطاهر إلى مدفنه، وخرجت منه أيضاً قرينته لتدفن في جواره.
ويضيف الرئيس ناصر :”دخلت بيت عبد الناصر فشاهدت أولاً حجرة الصالون الشهير الذي كان يستقبل فيه مئات من زعماء العالم. يقع الصالون إلى يمين الداخل من بوابة البيت، جدرانه مطلية باللون الرمادي الفاتح، الشبابيك مغطاة بالستائر والأرضية مفروشة بسجادة كبيرة وسجادة للصلاة يتداخل لونها الأزرق والأحمر أمام المدفأة. وركن المدفأة – بالمناسبة – كثيراً ما استقبل فيه عبد الناصر ضيوفه، وكثيراً ما ظهر في صور ضيوفه على صفحات الصحف. أما المدفأة نفسها، فهي من الطوب الأحمر، ولها رفّ خاص يحمل إلى حينها صوراً فوتوغرافية لنهرو وسوكارنو وتيتو ونيكروما ويوثانت وشواين لاي، وعليها جميعاً كلمات إهداء إلى عبد الناصر بخطوط أصحابها، والكلمات بعضها لا يزال واضحاً، وبعضها مثل صورة نهرو بهت حبره. فوق المدفأة على جدار الحجرة صورة زيتية لطفلين من أطفال الفقراء الإسبان مهداة من الحكومة الإسبانية وأمام المدفأة كرسيان متقابلان بينهما منضدة صغيرة للشاي أو القهوة. باقي أثاث الصالون بسيط ومرتب بعناية يتمثل في كنبة وستة كراسٍ وثلاث مناضد صغيرة موزعة بين الكنبة والكراسي المغطاة جميعها بقماش بسيط ونظيف مطرز بالورد وأوراق الشجر.
> لو دامت لغيرك لما وصلت إليك
يستذكر الرئيس ناصر زياته إلى منزل وأسرة الراحل جمال عبدالناصر ويقول :” أوراق الذاكرة تسقط ولا يسقط منها أبداً أول مرة دخلت إلى هذا الصالون، مع الدكتور خالد عبد الناصر الابن الأكبر للزعيم الخالد، وقبل أن يصحبني إلى الصالون، وقعت عيني في الحجرة التي استقبلني فيها خالد على دولاب إيديال صغير عليه عبارة محمولة على حامل معدني تقول: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك، وفيما بعد في أكتوبر من عام 2011 زرت منزل خالد جمال عبد الناصر لتقديم العزاء بوفاته إلى أنجال جمال وحكيم وعبد الحميد أشقائه، وكان معنا الدكتور عبد القدوس المضواحي والدكتور علي محسن حميد والأستاذ أحمد الجمال، وبقي المنزل متواضعاً مُختلفاً عن منازل أبناء الرؤساء الآخرين.
بعد تقديم العزاء توجهت إلى ضريح القائد حيث قرأنا الفاتحة على روحه الطاهرة. وهناك لمحت أعضاء الوفد الليبي المكون من عضوي مجلس قيادة الثورة المقدم «أبو بكر يونس» والرائد عبد المنعم الهوني اللذين جاءا لتمثيل قيادة الفاتح في الذكرى الأولى لوفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي يعتبرونه «الأب الروحي» لثورتهم، حيث قال عبد الناصر في إحدى خطبه التي ألقاها في طرابلس بحضور العقيد معمر القذافي إنه يذكره بأيام شبابه وحماسته، «وإنه الأمين على القومية العربية». وبينما كنت أتبادل الحديث معهما، وصل موكب الرئيس أنور السادات إلى الضريح، وبعد أن صافحني قال:
«أهلاً بكم في بلدكم. نرجو أن تكون مرتاحاً في مباحثاتك مع الدكتور فوزي»، وكنت متيقناً أن السادات حتماً كان على علم بطبيعة سيرها. فقلت له: «نعم، إنني مرتاح. وأتمنى أن تتطور علاقات بلدينا إلى الأفضل». وأعربت له عن تقدير شعبنا لمصر وشعبها العظيم.
> مؤامرة الشمال ضد الجنوب
وحول اللقاء الثاني بالرئيس السادات في القاهرة يردف الرئيس قائلا ” التقيت الرئيس السادات مرة أخرى يوم 29 سبتمبر 1971م في استراحته بالقناطر بحضور وزير الحربية المصري محمد أحمد صادق، وحضر المقابلة من الوفد المرافق لي صالح مصلح قاسم، وجرى بيني وبينه حديث دام مدة ساعتين. وتطرق الحديث بيننا إلى طبيعة المؤامرات التي تتعرض لها اليمن الديمقراطية، وكان لدى السادات اقتناع ثابت بأن النظام في صنعاء «نظام معادٍ لكم يأتمر بأوامر خارجية» وقال إنها «هي التي تدفعه إلى التخريب ضد الثورة في الجنوب». وأسرّ لي بما دار بينه وبين الملك فيصل عندما قام بزيارته، وقال: «لقد ثبت لي أنه يخشى النظام في عدن كما كان يخشى مصر سابقاً؟». لكنه أضاف أنه نظراً إلى الظروف التي تمرّ بها بلاده، فإن القاهرة تهدف من علاقات مصر التي تحسنت كثيراً مع السعودية إلى تحييدها في صراعها مع أميركا… على حدّ قوله.
وواصل الرئيس ناصر حديثه وقال :” وفي رأي السادات أن تحييد الشمال وعدم دخولها في معارك مع الجنوب سيفقد السعودية منفذها السهل للضغط على الجنوب. وقال إنه يأمل أن يتمكن السيد «محسن العيني» رئيس وزراء الجمهورية العربية اليمنية، «من إيقاف الضغط عليكم»، ووصفه بأنه رجل متفهم ومعقول.
وقال إنه سيكاشف «العيني» بالموضوع بعيداً عن معرفة الآخرين.
ويتابع الرئيس ناصر حديثه ويقول :” ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى علاقتنا بالسوفيات، ولما كان على اطلاع على أنني ذاهب لزيارة موسكو، وعلى ما دار في مباحثاتنا الرسمية مع الوفد المصري، قال إنه متفق مع ما توصلنا إليه مع رئيس وزرائه محمود فوزي بشأن حثّ السوفيات على دعم اليمن الديمقراطية سياسياً واقتصادياً.
وعودة إلى تاريخ العلاقات المصرية السوفياتية، وصف السادات الروس بأنهم مماطلون دائماً في تنفيذ وعودهم. لم تكن العلاقات بين القاهرة وموسكو في تلك الأيام من عام 1971 قد اقتربت من العد التنازلي، لكن لهجة السادات الساخرة كانت توحي بأنه يهيئ لطبخة ما، لم تكن معالمها واضحة بعد.
تتفق هذه الملاحظة مع ما نصحني به الزعيم الكوبي «فيديل كاسترو» عندما شكوت له أن السوفيات لا يساعدوننا بالقدر الكافي، حيث قال لي:
«اقرع بابهم مرة واثنتين وثلاثاً حتى 11 مرة ولا يصبك اليأس. لأنهم حين يوافقون في الأخير يفون بوعودهم. وبعد أن تأخذ منهم ما تريد، لا تدفع لهم شيئاً. هكذا هم السوفيات!».
ولما كنت أرى أهمية فتح قنوات لتطوير العلاقات بين مصر واليمن الديمقراطية، فقد سألته عن إمكانية خلق تعاون حزبي بين الجبهة القومية والاتحاد الاشتراكي العربي في مصر.
> السادات انتم مين ياعلي ناصر
يستدرك الرئيس علي ناصر في حديثه مع السادات ويقول: ” فوجئت بالسادات يسألني:
ما علاقتكم بجورج حبش ونايف حواتمة؟
أدركت ما يرمي إليه من وراء هذا السؤال، فقلت له على الفور:
إن اليمن الديمقراطية لها علاقات مع كل حركات التحرر العربية، ومنها الجبهتين الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية اللتين يرأسهما كل من جورج حبش ونايف حواتمة.
قال: إن صحفهم تهاجمنا.
قلت له: إن صحفهم لا تعبّر إلا عن موقف هاتين الجبهتين، وإن علاقتنا بحركة القوميين العرب انتهت تنظيمياً منذ عام 1965م، وأصبحت علاقات تاريخية أكثر منها علاقات تنظيمية وفكرية.
وعلق الرئيس السادات وهو يضحك مقطباً حاجبيه حتى ظهرت التجاعيد على جبهته السمراء التي تتوسطها علامات سجدة سوداء، وكان يحب أن يطلق على نفسه لقب (الرئيس المؤمن).
والله يا أخ علي مش عارفين أنتم مين.. أنتم موسكو.. أنتم بكين.. أنتم جورج.. أنتم نائف.. وبدا لي حينذاك أن لخطابنا السياسي والإعلامي غير المنضبط في تلك الفترة دوراً في كل ذلك.
وقد ذكرني موقف السادات بما سبق وأن قاله الرئيس عبد الناصر في أحد المؤتمرات وهو يمزح مع الرئيس سالم ربيع علي: «لقد شغلت كل العقول الإلكترونية لتحدد لي من أنتم وماذا تريدون وقد عجزت هذه الأجهزة عن تحديد استراتيجيتكم وهويتكم».
وقد أجبت السادات:
نحن أشقاؤكم وإخوانكم ولا ننسى دوركم في دعم الثورة اليمنية شمالاً وجنوباً، ونحن حلفاؤكم في جنوب الجزيرة العربية.
فقال السادات بارتياح:
على أية حال، نحن موافقون على بناء علاقات إيجابية بين «الاتحاد الاشتراكي» و«الجبهة القومية».
وبهذا اللقاء مع الرئيس السادات انتهت زيارتي لمصر التي استمرت أربعة أيام وغادرتها متوجهاً إلى موسكو يوم 30 سبتمبر 1971م.”