مرة أخرى، يتصدر الغناء مشهد الألم، ويطل كعنصر مقاومة من تحت الدمار، بصوت قروي برائحة البن، يردده الرعاة على سفوح الجبال باليمن، يشبه ابتهالات الفلاحين، توزعه الشابة الصغيرة هاجر نعمان خبزاً للفقراء ولحافاً يتدثر به المهمشين، إنها إبنة الحالمة تعز، التي ترسل أغانيها كأسراب حمام على خطوط النار.
بشدوها العذب الذي سحر قلوب الدبابات، وأسال الدموع من عيون المدافع، تطلق آهاتها رصاصة سلام في قلب الأزمات، وتنشر فيديوهاتها عبر منصاتها في الـ”سوشيال ميديا” لتمنح كل من يتابعها ابتسامة بيضاء.
لم تكن الشابة الصغيرة تتخيل أن موهبتها الفطرية ستكون بمثابة هدنة سلام لحرب أبت أن تضع أوزارها، في كنف حصار مطبق، يكاد يخنق المحافظة اليمنية الأكثر استنارة، وكثافة سكانية بين محافظات اليمن الذي يعيش تعاسة مفروضة قسراً على سكانه، ولا يزال يفتش في ملفات كل مندوب جديد للأمم المتحدة عن موروث سعادته المفقود.
قوة ناعمة وسط الوجع اليمني
هاجر التي بدأت الغناء منذ عمر 6 سنوات، ليست وحدها التي تحاول من خلال أغانيها تلطيف هموم شعب طحنه ثالوث الفقر والقهر والقمع، فعلى الرغم من أن عمرها لم يتجاوز 22 عاماً، إلا إنها تمثل قوة ناعمة لحرب لم يفلح حرير الدبلوماسية بعد من تضميد جراحها النازفة كل يوم.
تأبي الأغنية اليمنية بتراثها ودنداتها إلا أنها تعبر عن هموم جيل شبابي، يطوع ما ملكت مواهبه من إبداعات في حراثة الألم المرّ من حقول الألغام، وريّ ماء السلام لزراعة الفرح والأمان ليزهر أملاً وحياة، وأن يكون للأغنية فارسة تحارب شعارات الموت بالحب، وتتحدى رهانات الحصار بحنجرة حرّة تتجاوز فضاء اليمن كله.
هاجر التي درست الإعلام، بتخصص الآداب، تدرك جيداً أن التأثير على وجدان الإنسانية تشعله أغنية، وأن آهة واحدة تقرع ناقوس وتر، قادرة على إخماد حرب مفتوحة، لا يخطر على بال محللين بأنها ستكف أخيراً عن العبث بأرواح ضحاياها. لهذا تصر على الغناء لتقدم إلى العالم صورة الوجع اليمني على حقيقته.
30 مليون نبض على “يوتيوب”
تعيش هاجر في كنف أسرتها في محافظة تعز اليمنية، يتساءل متابعيها عن ارتباطها عاطفياً، كونهم لا يتخيلون أن يخطفها فارس أحلام، فالجميع يشعر أنها تغني له وحده، لأنهم ببساطة عشقوا صوتها وجمال روحها معاً، معتبرين بأنه بلسم لتلطيف الهموم، ويتوقعون أن يبلغ عدد مشاهديها على قناتها في “يوتيوب” 30 مليون مشتركاً، أي بعدد نبضات سكان اليمن كله. لقد استطاعت الفنانة الشابة أن تلامس وجع الملايين بشجنها وشجوها التراثي الحزين.
هاجر تدرك أن الأغنية اليمنية أصبحت برقية عزاء ومواساة لبلادٍ يرزح تحت رحمة القصف، لهذا ترفع صوتها عالياً، وهي تشدو بأغنية “متى سوف يرتاح هذا الوطن”، لتعبر بإحساس فائق عن ضائقة الكثيرين نتيجة اختناقهم وانعدام أدنى المقومات لعيش كريم.
أغنيات تقاوم الحرب
وتغني تضامناً مع رغبتهم بالخلاص من كوابيس الظلام، “اشتي أسافر بلاد ما تعرف إلا الحب”، لتمنحهم فسحة أمل تكسر الحواجز والحدود، وتحرر أحلامهم من أسوار مستقبل مختطف، لا تتوقف هاجر هنا، بل تمارس نوعاً من المقاومة، فتردد بحماسة النشيد الوطني “رددي أيتها الدنيا نشيدي..”، تتغزل بحب الوطن كأسمى شعور، وأنبل غرام تعيشه على كلمات أغنية “حسنك لعب بالعقول”، من دون أن تتردد هاجر بتوقيع رسالة وفاء له :”يا ليتنا لك”. أمنية مكسورة الجناح لا تزال تراود شباب اقتادتهم آيادي المكر وقوداً لمعارك، وحراساً لثكنات، وأطفالاً جندتهم الفاقة عبيداً للقمة عيش تسد رمق أسرهم، مقابل تقديمهم دروعاً بشرية في جبهات الاقتتال.
رحلة كفاح لـ”مشاقر” تقاوم الحرب
تعتبر هاجر نفسها تماماً كما أبناء جيلها المظلوم، جزءً من إرادة جمعية ترفض الارتهان لكل مشاريع الترهيب والقمع، دائماً تستمد وجع أغانيها من صدور المتعبين والمغلوبين على أمرهم، فتجدها تتفاعل مع حملة “يوم الأغنية اليمنية” التي أطلقها ناشطون كمبادرة وطنية، في إشارة إلى أن آلات الحروب يمكن صدّها بالغناء بدلاً من العنف.
رحلة كفاح فني بدأتها هاجر بتأسيس فرقة “مشاقر” الموسيقية المكونة من 5 أصدقاء لها، تتضمن رسالتها إحياء التراث الغنائي اليمني، لاستعادة بهجة المدينة الجاثمة تحت ركام الحرب. و”مشاقر” تعني زهر الريحان الزكي الذي يغرس بين تلافيف حجاب المرأة كنوع من الزينة.
تود هاجر عبر أغانيها بث رسالة سلام، إلى جانب تقديم تراث بلدها المنكوب إلى الشعوب كافة، وإعطاء نبذة فنية عن يمن لا يزال يقاوم بأن يظل سعيداً رغم الحرب، لتؤكد لهم أنه يوجد بين ركام هذا الصراع إنسان حقيقي يريد أن يفرح ويغني للحياة.. وهذا ما لا يعرفه كثيرون عن أبناء اليمن الذين نسيهم العالم تحت الركام.
تتمرد هاجر على واقع أسود يسوده صمت ثقيل، تحاول أن تحمل الأغنية ما لا طاقة به في إعادة الوجه المشرق لمدينة أصبحت ساحة مفتوحة على الاقتتال المستمر. تغني لترسل صوتها برقيات عاجلة إلى أولئك الشباب والأطفال الذين يواعدون الموت على الجبهات، تناديهم بالعودة من براثن النزاع الطويل.
طلة العيد في المدينة المنكوبة
لصوت هاجر عشاقاً طيبون، لا يتخيلون أن تتنفس مدينتهم المنكوبة دونه، طلتها تشبه يوم العيد تعيد للحياة توازنها، فهذا ناشط على “|فيسبوك” يقول: “ضع صوت هاجر جانباً وانظروا ماذا تبقى لنا منها؟ إنها آخر أصوات الحياة اليومية هناك، فهي الصوت الوحيد الذي يطمئننا في مدينة أصبحت كهفاً مسكوناً بأشباح وعصابات مافيا”.
ويتابع:” هاجر لا تغني فقط، إنها تقاوم كل التهم التي ألصقت بتعز، وتعيد تشكيل هذه المدينة من جديد، ورسم ملامحها الأبدية، إنها صوت تعز، ورفضها الجبار والعنيد لمحاولات التجريف المستمر نحو ما لا ندري”.
عصر هاجر نعمان
فحين تغني هاجر تتحامل تعز المنهكة على جراحها وتنسى كل شيء، وترقص بخفة الفراشة قرب النار، حين تغني هاجر لا يبقى في تعز إلا صوتها فقط، تعز بخير مادامت هاجر تغني، ويصف ناشط آخر صوتها بأنه ما تبقى من تعز، ويضيف: “غنوا يا شباب لا شيء سيبقى من هذه الفترة المظلمة سوى الأغاني والشعر والقليل من الذكريات التي سنرويها للأحفاد، ونضحك معهم، لن نتذكر كل هذه التفاصيل والمناكفات، ولن تبقى سوى الأصوات الخفيفة فهي التي ستنجو دائماً، وحين يسألكم أحفادكم يوماً ما في أي عصر عشتم؟ قولوا لهم: في عصر هاجر نعمان”.
المصدر : قناة العربية