سيطرت عليهم ذاكرة مثخنة بخذلان الأهل والأقارب والأصدقاء, ليغرقوا في بحر اهمال السلطات والمؤسسات الرسمية, فبدلاً من العناية بهم والاستفادة من خبراتهم , تركهم الجميع ليعيش بعض مسني اليمن على أرصفة الشوارع وتحت جسور خصصت لعبور السيارات أو المشاة. وبعد أن تجاوزوا الـ 60 عاماً من أعمارهم، لا زالوا يواجهون الحياة بما تبقى لهم من سبل تبقيهم أحياء فقط. لتسير الصعوبات من خلالهم, بعد أن كانوا شباباً يتحدونها ويمضون من خلالها بكل ثقة وقوة.
تحجّرت الدموع في عيني الستيني علي قايد -اسم مستعار- وهو يشرح معاناته لرئيس الوحدة النفسية في مستشفى الرسالة بصنعاء الدكتورة منيرة النمر، جراء المعاملة السيئة التي يتلقاها من عائلته والتي بلغت حد الاعتداء عليه بالضرب.
تقول الدكتورة النمر في روايتها عن قصة الستيني -لـ المجلة الطبية- أن أربعة رجال، اثنين منهم في العشرينيات، قدموا إلى المستشفى في تاريخ 9يونيو/حزيران الجاري مصطحبين المسن قايد وهو في حالة مزرية كما لو أنهم أحضروه قسرا.
وبحسب النمر، أخبرها المسن قايد بأن أبناءه وأحفاده يحبسونه في غرفة صغيرة يقضي فيها معظم وقته بمفرده “لقد كان يبكي بحرقة وهو يتحدث عن الشتائم التي يوجهونها له والتمني له بالموت”.
وأفادت بأن قايد الذي جلبه أبناؤه إلى المستشفى بدعوى أنه يعاني من مرض نفسي أخبرها بأنه كان رجل أعمال يحترمه الجميع وعندما تدهور وضعه الاقتصادي تعرض للوم من الجميع، مضيفة ” كان يعاني من ثقل في الكلام ومستاء جدا لأنهم يعاملونه كما لو أنه أصبح يشكل عبئا عليهم وعلى الحياة”.
وأكد الفحص الطبي الذي أجراه المركز بأن الستيني قائد بدأ يعاني من تدهور في حاستي السمع والنظر وهذا من أهم الأسباب التي دفعته إلى الدخول في نوبات اكتئاب فاقمت من تدهور وضعه الصحي بشكل عام وأصبحت صحته الجسدية متآكلة، حتى ان الطبيبة النمر توقعت بإصابته بمرض الخرف الذي يمحي من ذاكرته معاناة نفسية وجسدية بسبب سوء معاملته.
وعلى العكس من المسن قائد الذي يقضي جل وقته محبوسا في غرفة انفرادية، يصرف السبعيني معيوب جماعي ما تبقى له من العمر أسفل جسر في شارع الستين الغربي متخذا منه مأوى.
لم يكن من السهل الحصول على تفاصيل حكايته أو قصته، لكنه أخبر “المجلة الطبية” بأنه قَدِمَ من منطقة تهامة -غرب اليمن- قبل نحو ثلاث سنوات بسبب الحرب هو وعائلته.
ضاعفت الحرب والأوضاع الاقتصادية السيئة من أعداد المسنين المشردين والمرضى النفسيين
أوضح أن ولده وأحفاده الخمسة الذين قدم معهم يعيشون في دكان “محل على الشارع” بالقرب من سائلة صنعاء، وقد تركهم بإرادته لأنه كان يعاني من الكتمة، ضيق التنفس، عند البقاء في الدكان بسبب الازدحام وعدم وجود تهوية مناسبة.
ما يزعج الجماعي ويشعره بالحزن على نفسه، هو معاملة بعض المارة ممن يتعمدون الإساءة له أو السخرية منه بالكلام والتعليقات، خاصة من قبل الأطفال والمراهقين الذين يمتهنون التسول (الشحاتة) أو الباعة المتجولين، لكنه يضيف “القليل منهم يفعل ذلك” ربما لأنهم لا يدركون الأسباب التي أوصلتني إلى هنا.الإهمال الأسري، حوّل الجماعي إلى متسول يستجدي أهل الخير بضع كسرات خبز أو بقايا طعام خلفها زبائن المطاعم المجاورة لمكان إقامته الدائمة أسفل الجسر، فيما يترك بعض المارة أمامه بعض ريالات تمكنه من شراء بعض احتياجاته.
وهنا توضح الدكتورة النمر أن تعرض بعض الكبار في السن إلى انتكاسة سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي تترك أثرا كبيرا على وضعهم النفسي والصحي بشكل عام وتتفاقم هذه الحالة في حال تغيرت معاملة المجتمع المحيط بهم إلى الأسوأ.
إقرأ أيضاً..اليمن يسجل نسبة شفاء عالية من فيروس كورونا في ثلاث محافظات
وتنصح المجتمع بأهمية احتواء كبار السن وغمرهم بالاهتمام والعطف والاحترام وأخذ مشورتهم في القضايا الأسرية والاستماع إلى رأيهم في أي قضية باهتمام، لأن ذلك يساعدهم في الحفاظ على معنويات مرتفعة وبالتالي مقاومة أمراض الشيخوخة، خاصة في ظل غياب شبه كامل لدور المنظمات في رعاية هذه الفئة.
وفي هذا السياق تمتلك العاصمة صنعاء -التي يسكنها ما يقارب أربعة ملايين نسمة- مركزا وحيدا خاص برعاية المسنين ويقع مقره ضمن مبنى المستشفى الجمهوري.
وبحسب حديث ممرضة تعمل في المركز، فضلت عدم ذكر اسمها، لا يمكن لهذا المركز أن يستوعب جميع كبار السن ممن يتعرضون للإساءة في منازلهم والمشردين خارج المنزل.
وأضافت -في حديثها لـ المجلة الطبية- بأن المركز لا يقبل أي مسن إلا أولئك القادمين إلى الدار عن طريق جهاز المباحث، تجنبا للمساءلة القانونية عند موت النزيل.
وأوضحت أن المركز -الذي تتكفل به مؤسسة الأم تريزا من إيطاليا- يقدم الرعاية الكاملة “الطعام والشراب والرعاية الصحية والمأوى” لـ 120 نزيلا من كبار السن بالإضافة إلى العشرات من الأطفال والمراهقين من ذوي الاحتياجات الخاصة، في الوقت الذي تقدر تقارير رسمية نسبة كبار السن بـ 4% من عدد سكان اليمن الذي يتجاوز 30 مليون نسمة.
وتتعامل إدارة المركز مع المحيط بحذر وحرص شديد خاصة بعد تعرض دار للمسنين في عدن جنوب اليمن إلى هجوم إرهابي سقط على إثره 16 شخصا من النزلاء والعاملين في شهر مارس/آذار 2016.
المعاملة السيئة من قبل أهالي بعض كبار السن بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي الذي فاقمته الحرب ضاعف من أعداد المسنين المشردين في شوارع صنعاء، بحسب مصدر في وزارة الصحة بالعاصمة صنعاء، فضّل عدم ذكر اسمه.
وأوضح -في حديثه لـ المجلة الطبية- أن رعاية هذه الفئة مسؤولية الدولة بشكل أساسي بالإضافة إلى المنظمات المحلية والدولية، مؤكدا أن الوضع غير الطبيعي الذي يعيشه اليمن بسبب الحرب قذف بهذه الفئة إلى الهامش ولم يعد أحد يهتم بها.
منظمة الصحة العالمية أوردت في تقرير لها نشرته على موقعها في الانترنت أنها تجد “أن كبار السن عرضة للإيذاء الجسدي والنفسي والعاطفي والمالي والهجر والإهمال وفقدان الكرامة والاحترام بشكل كبير” محددة فئة كبار السن بأنهم الأشخاص الذين وصلت أعمارهم إلى 60 عاما أو أكثر.
وأضافت المنظمة العالمية بأن الدلائل تشير إلى أن 1من كل 10 أشخاص مسنين يتعرضون للإيذاء بسبب عدم الوعي الكافي لدى العامة بكيفية التعامل مع كبار السن من الآباء والأمهات.