فشل المجتمع الدولي في تمديد الهدنة الأممية في اليمن، على الرغم من عاصفة الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص، إلى جانب المبعوث الأميركي وسفراء الدول الأوروبية في اليمن وتصريحات وزيري خارجية واشنطن ولندن وتحركاتهما التي سبقت الأيام الأخيرة قبيل انتهاء الهدنة مساء الأحد الماضي.
ومع انتهاء الهدنة التي كان العالم يعول عليها كحجر الزاوية في إحلال السلام في اليمن ووضع حد لحرب الثماني سنوات التي دأب الإعلام الغربي على وصفها كواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية، كشفت التداعيات عن خيبة أمل غربية غير متوقعة إزاء الموقف المتشدد والمتعنت للحوثي الذي كان السبب الرئيسي في انهيار الهدنة، بعد أن قدمت الحكومة الشرعية اليمنية ما يمكن وصفها بالتنازلات الموجعة، التي طالما بررها المسؤولون في “الشرعية” بأنها تنازلات لصالح السلام ولدواع أخلاقية وإنسانية بحتة.
وفي مقابل البيان المرن الذي أعلنته الحكومة اليمنية في اللحظات الأخيرة، معلنة موافقتها على الصيغة النهائية المعدلة لمقترح المبعوث الأممي هانس غروندبرغ الذي يتضمن بنود تمديد الهدنة لستة أشهر أخرى، والتي تشمل توسيع الرحلات من مطار صنعاء وفتح ميناء الحديدة والتوافق على آلية لصرف رواتب الموظفين في مناطق سيطرة الحوثي وفتح طرق فرعية في مدينة تعز المحاصرة، تراجع الحوثيون عن الموافقة على بنود تمديد الهدنة التي أبلغها ناطق الحوثيين ورئيس وفدهم التفاوضي محمد عبدالسلام للمبعوث الأممي، قبل أن يصدر بيان مفاجئ عن المجلس السياسي الأعلى للحوثيين وضع حدا نهائيا لكل آمال تمديد الهدنة الهشة، في موقف يعيد إلى الأذهان تراجع الوفد الحوثي عن مسودة التسوية السياسية في ختام مشاورات الكويت التي استمرت ما يقارب المئة يوم، قبل أن يتراجع الحوثيون كذلك في اللحظات الأخيرة عن الموافقة على الاتفاق، وهو الأمر الذي كشف النقاب عنه المبعوث الأممي السابق إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد.
وبعيدا عن التحليلات التي تفسر التراجع الحوثي، إما كونه انعكاسا لحالة انقسام حقيقية أو مصطنعة داخل الجماعة بين فريقين “براغماتي” وآخر “عقائدي”، أو ربما نتيجة فيتو إيراني شبيه بذلك الذي أنهى مشاورات المئة يوم في الكويت، فإن الحقيقة الماثلة اليوم أمام المجتمع الدولي هي أن السلام أو الاعتبارات الإنسانية ليسَا ضمن خيارات الحوثي الإستراتيجية ولا حتى تلك التكتيكية، وهو ما كشفت عنه مواقف القيادة السياسية والعسكرية الحوثية قبيل وبعد انتهاء فترة الهدنة، والتي طغى عليها الخطاب المتشنج والناضح بعبارات التهديد والوعيد باستهداف مصالح الإقليم والعالم الاقتصادية والحيوية، في حال لم يرضخ مجلس القيادة الرئاسي اليمني والتحالف العربي والوسطاء الدوليون لحزمة الإملاءات والاشتراطات الحوثية التي تخفي خلفها أبعادا تتصل برغبة الجماعة المدعومة من إيران في شرعنة وجودها في مناطق سيطرتها شمال اليمن، وتطلعها إلى تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية تتجاوز دور الهدنة الأممية ومقتضياتها الإنسانية المفترضة التي تمثل اتفاقا بين طرفين لوقف التصعيد لدواع إنسانية وإفساح المجال لمعالجة احتياجات الناس والتخفيف من أعباء الحرب، وليست مادة للابتزاز والتهديد والاستعراضات العسكرية وإملاء الشروط.
والحقيقة أن الوضع في اليمن من السوء بمكان لا يمكن وصفه، والذي يجعل من الهدنة بمفهومها الإنساني حاجة ملحة لتخفيف أعباء الحرب التي أشعلها الحوثيون في اليمن عبر انقلابهم، ولكن اليمن باعتقادي في حاجة إلى هدنة لا تشبه تلك التي يلهث الحوثي خلفها وإنما هي هدنة حقيقية تضمن عدم ترحيل الحرب أو تحويل الهدنة الإنسانية إلى استراحة محارب تمنح الحوثي فرصةَ الحشد لحرب قادمة أشد عنفا وأكثر كلفة من الناحية الإنسانية والبشرية والمادية.
وإذا وقفنا دقيقة حداد على مسار الهدنة التي لفظت أنفاسها في الثاني من أكتوبر، نجد أن الحوثيين عملوا خلال الفترة الماضية على إفراغها من محتواها الإنساني وحولوها إلى مرحلة للتحشيد العسكري والتحضير للحرب وتهديد وابتزاز المجتمع الدولي وتكريس سياسة القمع والإرهاب في مناطق سيطرتهم، وهو الأمر الذي لم يكشف إلا عما عرفه اليمنيون والعالم أجمع وخبروه عن انتهازية هذه الجماعة وثيوقراطيتها وتخليها عن الواقعية السياسية في أبسط صورها، حتى ذلك الشق من الواقعية الذي يحمي مصالح الجماعة ويحسّن من صورتها القبيحة كميليشيا عنصرية متطرفة لا تبحث عن السلام ولا يهمها مصالح المواطنين، بقدر ما تلهث خلف تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لصالح المشروع الإيراني في الأساس أو بما يكفي لمدها بأسباب المضي قدما في تنفيذ مشروعها الأيديولوجي الإقصائي المتطرف.
وعلى الرغم مما توحي به مواقف الحوثيين وتصريحات قادتهم واستعراضاتهم العسكرية من عنفوان وقوة، إلا أن ذلك الخطاب الشعبوي المتشنج الذي يلوح باستهداف مصالح الإقليم والعالم الاقتصادية ينم عن غباء سياسي مفرط، لا يقرأ التحولات التي تمر بها المنطقة والعالم جيدا في خضم الصراع الروسي – الغربي والأزمة الداخلية العنيفة التي تجابه النظام الإيراني الذي يواجه ثورة شعبية غاضبة، وهي كلها مؤشرات تسير بالتوازي مع نفاد صبر العالم أمام أي مغامرات جديدة قد تهدد ممرات الملاحة ومصادر الطاقة، وهو ما يفسر على الأرجح التحول اللافت في الخطاب السياسي الغربي إزاء الحوثيين بعد رفضهم مبادرة المبعوث الأممي لتمديد الهدنة وتحميلهم بشكل غير مألوف مسؤولية انهيار الهدنة التي تعاطى معها في المقابل مجلس القيادة الرئاسي بمسؤولية وبما يلبي متطلبات السلام، وهو الموقف الذي اعتبره الحوثيون على الدوام ضعفا أغراهم برفع سقف مطالبهم إلى درجة غير مقبولة، في الوقت الذي استنفدت فيه الشرعية كل الهوامش الممكنة بالتعاطي المرن مع الضغوط، لتعلن صراحة أن الهدنة الإنسانية لا تعني أن يتم الاعتراف بنتائج الانقلاب الحوثي كأمر واقع أو أن يتم الرضوخ لاشتراطات الميليشيا الإيرانية بحذافيرها.
وفي عودة أخرى إلى دقيقة الحداد التي وقفناها على الهدنة الأممية في اليمن وإذا تأملنا مسيرة الإخفاقات التي رافقت هذه الهدنة التي لم يصفها يوما الحريصون على استمرارها إلا بالهشة، والتي لم تنفذ إلا من جانب واحد فقط هو الحكومة الشرعية، نجد أن هذه الهدنة ليست إلا تكرارا في كل تفاصيلها ومآلاتها بمسلسل الهدن المكسيكي بين الحكومة اليمنية والحوثيين في حروب صعدة الست، ولكن الفرق الوحيد أن الوسطاء هذه المرة دوليون، وهو ما يضع المجتمع الدولي اليوم أمام مسؤولية حقيقية بعد أن تعرى وجه الطرف المعرقل الوحيد للسلام في اليمن.
لذلك نكرر نصيحة قديمة طالما كررناها منذ بدء الحرب في اليمن للباحثين عن سراب السلام في جبال اليمن، وهي أن المجتمع الدولي إذا كان جادا في إحراز السلام ووضع نهاية للحرب، عليه أن يمارس ضغوطا حقيقية على الحوثي بوصفه الطرف المتعنت؛ لأن “الشرعية” لم يعد لديها ما تقدمه من تنازل بعد اليوم باعتقادي إلا أسباب بقائها، أمام سيل الذرائع الحوثية التي لا تنتهي.