منذ تأسست السعودية عام 1727م، على يدي الإمام محمد بن سعود، وهي محط شكوك وعدم فهم مقصودان من الجوار والقوى الإقليمية، ويبدو السبب في ذلك أن «الدرعية» وهي أم الدول السعودية الثلاث جاءت مختلفة عن السياق وقواعد اللعبة السياسية التي حاول فرضها أقوياء تلك المرحلة من تاريخ المنطقة.
فهي رفضت أن تكون تابعة للسلطنة العثمانية، أو تكون إمارة مغمورة بلا طموحات، أو مجرد عشيرة تحكم بلدتها والبلدات والقرى المجاورة، وكان يكفيها -لو أرادت- أن تدعو للسلطان على منابر الجمعة وتفرض المكوس على رعاياها وترسل نصفها لصالح السلطنة -كما فعل الكثير غيرها-، لتحظى بعد ذلك بمباركةٍ واعترافٍ بحكمها المحلي، لكن ذلك سيجعلهم تابعين لا قادة، ولاة لغيرهم لا أمراء، وهو أمر لا يستقيم مع شخصية الإمام محمد بن سعود وأحفاده حتى اليوم.
كان ذلك هو السياق السياسي والولائي في تلك المرحلة التاريخية، وكان من الممكن أن يجنبها الحروب والويلات، لكنها رفضت أن تطوف في مدار أحدٍ؛ لأنها مختلفة، ولأنها مستقلة في فهمها ورأيها، ولأن لديها مشروعاً حضارياً مستلهماً مما يلي:
أولاً: تراث سياسي واجتماعي وديني غير ملوث بالاستعمار والاحتلال.
ثانياً: فكر سياسي مستقل، ورؤية إصلاحية مبنية على الصدق والوفاء والاعتداد بالنفس.
ثالثاً: ولاء شعبي جارف ومستدام على مدى عمر الدول الثلاث، ودليله قيام القبائل -طواعية- عبر مبعوثيها بالذهاب للدرعية للالتحاق بحكم الدولة الناشئة، ومن أمثلة ذلك -أبو نقطة المتحمي من عسير، بخروش بن علاس من إقليم الباحة، عثمان المضايفي من إقليم الحجاز، فضلاً عن أن القبائل نفسها جمعت ألويتها تحت راية ابن سعود للتصدي للغزاة الذين حاولوا سلب دولتهم، من وادي الصفراء شمالاً إلى وادي بسل قرب الطائف، مروراً بتربة وشمرخ والقنفذة وطبب وليس انتهاء بالدرعية.
جوبهت الدولة السعودية الأولى بمؤامرات وحروب عديدة، وكان أعداؤها مؤمنين بقدرتهم على هزيمتها دون متاعب، وظن الجميع أن علاج تلك الدولة القاطنة في أعماق نجد وفي مجاهل الجزيرة العربية بلا قدرات ولا إمكانات غير إيمانها بنفسها، يتمثل في اقتلاع آل سعود من جذورهم والقضاء عليهم بموطنهم الأساسي في قلب الدرعية.
فشل واليا العراق والشام في حملتيهما على الدرعية، وفشل طوسون باشا وإبراهيم باشا، وحتى مع انتصار محمد علي باشا، في معركتي (بسل والدرعية) إلا أنه لم يربح الحرب، صحيح أنه دمر الدرعية، لكنه لم يكسر إرادتها، لم يحطم أنفس وقلوب أئمتها الكرام، ولم يستطع إقناع الحاضن الشعبي في كلِّ القبائل بالتخلي عن ولائها لهم.
ولم يستطع أحدٌ اقتلاع آل سعود من «درعيتهم» ونجدهم وسلطنتهم التي امتدت على معظم أقاليم الجزيرة العربية.
فبعد سبع سنوات فقط من سقوط الدولة السعودية الأولى عام – 1818م، عاد الإمام تركي بن عبدالله بن محمد آل سعود إلى الدرعية، مؤسساً دولته الثانية.
أيضا لم يفهم أعداء الدولة السعودية خبيئتها ولا معادلتها التي قادتها للعودة مرة تلو مرة، بل اعتبروها مجرد محاولة لا بد أن تفشل، ولذلك حاربوها من داخلها محاولين إحداث الفتنة وزرع التفرقة.
مع انتهاء الدولة الثانية، لم يصدق محبوها فضلاً عن أعدائها أن من الممكن عودتها مرة أخرى، ومع ذلك عادت مع مؤسسها الثالث الإمام ثم السلطان ثم الملك عبدالعزيز، ولعلنا عندما نذكر المراحل التي مر بها منصبه رحمه الله، نسلط الضوء على عبقريته وقدرته الفائقة على تلمس التغييرات السياسية في العالم والتماهي معها والتحول إلى دولة عصرية.
أيضاً لم يقبل الكثير من خصومها عودة السعودية في مئتها الثالثة، فواجهوها بحملات وشائعات مضللة لتقويض حكمها واغتيال سمعتها، بدأت باتهامها بالكفر واختلاق مذهب جديد، ثم بالتعدي على الحجرة النبوية والقبر الشريف، وهو ما ثبت كذبه بعد انعقاد المؤتمر الإسلامي الأول في مكة المكرمة في عهد الملك عبدالعزيز، في عام 1344 هـ- 1926م، الذي فند تلك الافتراءات، مع ذلك بقيت الحملات على السعوديين وتوارث أعداؤها سوء فهمها في محيطها العربي والإسلامي وحتى الدولي.
في الحادي عشر من سبتمبر، ظن الكثير أن الحادثة -المدبرة للإيقاع بالسعوديين- وضعت شاهدَ قبرٍ على مصير الدولة السعودية الثالثة، وأنها بدأت رحلة الأفول، وفي طريقها للتفكك، بل لقد تجرأ حتى رعاع العالم من حزبيين وتنظيمات ودول، على المملكة التي ظنوا أنها وصلت لمرحلة الشيخوخة.
السعوديون وعلى رأسهم آل سعود دهاة الجزيرة العربية وعقلها الكبير، الذين هضموا التاريخ واستوعبوا كيف تُحكم الدول، كانوا يخططون لولادة جديدة، ولادة ليست لمد عمر الدولة، بل نهضة حضارية لدولة أسّسها عبدالعزيز قبل مئة عام وحفظها أبناؤه الملوك من بعده، حتى اختير الأمير الجسور محمد بن سلمان، ليكون واجهة المملكة الصارمة الحديثة، لتتحول على يديه إلى دولة متحفزة شجاعة قادرة على حماية إرثها وأثرها ومستقبلها، دولة تستخدم يداً من حديد لمواجهة أعدائها، وقفازات من حرير لمصافحة من يسالمها.
لقد وجدت الرياض أن التحديات كبيرة جداً، والصراع في الإقليم مؤلم ومرير والخصوم يحدون الخناجر ويعمرون البنادق للاستيلاء على السعودية، أو على الاقل اغتيالها ومن ثم تقاسمها.
فإذا بها تنهض من تحت الرماد نافضة الغبار وتعب السنين، ومعظمة إمكاناتها، وعابرة نحو المستقبل عبر إعادة هيكلة نفسها بنفسها، أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومالياً، لينتهي الأمر بأن استعادت الدولة قوتها، وفرضت هيبتها، وأصبح أعداؤها في حيرةٍ من أمرهم، فمع كل هذه الحرب الكونية التي وجهت إليها لم يستطيعوا تركيعها ولا هزيمتها، بل استطاع الملك سلمان عبر توجيهاته للأمير محمد بن سلمان التصدي لها والقضاء عليها، ومن ثم تسيُّد المشهد العربي والإقليمي في سنوات قليلة.
اليوم ومع التوجه السعودي نحو الشرق الأقصى حيث الصين وكوريا وتايلند، يعتقد البعض أن الرياض تتخلى عن المعسكر الغربي، وترتمي في المعسكر الشرقي، رغم أنها لم تكن يوماً أمريكية، ولن تصبح صينية، وكل ما في الأمر أن الرياض تُذّكر الجميع بأنها لم ولن تكون تابعة لأحد، فكما رفض محمد بن سعود منذ عام 1727م، أن يكون تابعاً لأحدٍ وفارضاً على الجميع شخصية دولته، يرفض أحفاده بعد ثلاثة قرون أن يكونوا تابعين لأحد، ويفرضون مصالح دولتهم واستقلالها لتكون السعودية أولاً.
نقلاً عن “عكاظ”