وسط المأساة الحاصلة في غزة وتحول الصراع هناك إلى إبادة جماعية معلنة للفلسطينيين على يد الجيش الصهيوني يتم نقلها على الهواء على مدار الساعة، تأتي تطورات الأوضاع في المنطقة وخصوصاً في البحر الاحمر باحتمالات جديدة لم تكن متوقعة قبل انفجار الصراع في فلسطين.
ومهما كانت الآراء في ادعاءات ارتباط ما يجري بغزة إلا أن المؤكد أن الصراع في اليمن دخل طورا أخر يبدو فيه كصراع دولي ومشكلة عالمية والخروج بصورة حاسمة من مجرد كونه “حرب أهلية” وصراع إقليمي.
كانت اليمن قبيل انفجار الصراع في فلسطين في طريقها لما يمكن أن نسميه اتفاق تسوية سيئا وعملية سلام غير محتملة النجاح، لكنها كانت على الاقل مؤشر إلى إمكانية دخول اليمن في فترة هدوء أو على الأقل صراع منخفض الحدة لمدة طويلة هي استمرار للحالة التي يعيشها البلد منذ سنتين.
النقد الأساسي الذي كان يوجه لهذه العملية المعلنة كمبادرة من قبل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة بينما يعلم الجميع أنها تفاهمات سعودية حوثية بمشاركة عمانية، أنها تمكن الحوثي من مكتسبات دون أن تلزمه بأي التزامات جدية، وتترك آفاق الحل النهائي مبهمة، وأنها بالتالي ملبية خصوصا لإرادة المملكة العربية السعودية في الخروج من المستنقع اليمني والظهور بصورة الوسيط لا طرف النزاع، فضلا عن أي عارف بطبيعة وتاريخ الحركة الحوثية وتركيبها (وعقيدتها) التي يعرف انها لا تتعامل مع اتفاقيات التسوية أو السلام إلا كفرصة للأستعداد لجولة أخرى من الحرب أو التهام قطعة أرض في مكان آخر.
الآن وبعدما نفذت الحركة الحوثية هجمات ضد السفن التجارية وخطوط التجارة الدولية بدعوى أنها سفن إسرائيلية أو تتجه إلى موانئ إسرائيلية، وصولا إلى تحول الأمر إلى اشتباك مفتوح مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودخول الأوروبيين لاحقا بإرسال قطعهم البحرية، مرورا بمشاركة الهند وتعزيز الصين لتواجدها البحري في المنطقة، وبغض النظر عن إعلانات الولايات المتحدة المتكررة عدم رغبتها بخوض صراع وحرب ضد الحركة الحوثية، بل وإعلانها المتكرر استمرار دعمها لخارطة الطريق الخاصة بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة المتعلقة بعملية التسوية والسلام في اليمن، فإن الأمور تتحرك نحو صراع مفتوح ومتصاعد يصعب ضبطه كما يصعب تحديد نهايته، خصوصا مع فشل الضربات الأمريكية والبريطانية في شل قدرات الحوثي أو ردعه، ونظرا لطبيعة تكوين وعقيدة الحركة الحوثية التي تجعل تراجعها عن خوض الصراع صعبا وأقل احتمالية مع مضي الوقت.
وبينما يؤدي الصراع في البحر الأحمر إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عموم اليمن، والتي كانت سيئة قبل تفجر الصراع في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية وحلفائها، وشبه كارثية في المنطقة الخاضعة لسلطة الحوثي، ومع زيادة صعوبات إيصال المواد الغذائية والأساسية التي يعتمد عليها اليمنيون وزيادة رسوم الشحن والتأمين، تبدو البلاد على باب الدخول في مرحلة أشد قتامة عنوانها الأساسي الجوع، إضافة إلى نتيجة الصراع حتى الآن على البيئة البحرية وتعرض مصدر عيش عشرات الآلاف من الصيادين إلى الخطر وتأثير الكارثة البيئية على عموم جوانب الحياة. بينما يحدث ذلك تنفتح آفاق سياسية وعسكرية جديدة أمام معسكر الحكومة الشرعية وحلفائها، والتي كانت تبدو كمن يسير إلى حتفه بالتوقيع على تسوية تعطي الحوثي الكثير وتحمل ضمنيا تراجعا عن مرجعيات الحل النهائي المعلنة، خصوصا لتعمق الصراعات الداخلية بين أطرافها وتناقض برامج ومشاريع مكوناتها وخضوعها لأجندات مختلفة للدول الراعية لها، وأساسا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، بل وحتى تأثير دول راعية وداعمة للحوثي مثل قطر وسلطنة عمان.
رغم الإرباك الذي طبع سلوك أطراف الحكومة الشرعية والمجلس الرئاسي، والذي يجد تفسيره بعدم رغبتها بالظهور في موقع غير داعم للقضية الفلسطينية وسط أستخدام الحوثي لها والقول إن حربه في البحر الأحمر من أجلها واشتراطه وقف الحرب في غزة لإيقاف ضرب السفن والممرات الحربية، إلا أنها مع الوقت أصبحت تستخدم خطابا سياسيا مستوعبا لطبيعة المصالح الدولية والإقليمية، مذكرة دائما بأن الحل يبدأ ببسط سيادتها على عموم اليمن، ورغم الشكوى المستمرة من أن السياسات الدولية هي ما مكن الحوثي من البقاء في الحديدة والساحل الغربي من اليمن، خصوصا إيقاف قوات العمالقة والمقاومة المشتركة من الاستيلاء على ميناء ومدينة الحديدة الذي كان يبدو على بعد أيام، قبل فرض اتفاق ستوكهولم والذي لم تلتزم به الحركة الحوثية مطلقا -أساسا من قبل بريطانيا على المملكة العربية السعودية وباستخدام قضية خاشقجي- إلا أن الحكومة الشرعية تبدو مدركة أن الصراع الجديد في البحر الأحمر عزز ادعاءاتها، ومن حاجة القوى الدولية لها،
رغم أنها مازالت باقية في موقع التصريحات السياسية دون وجود خطة وبرنامج سياسي محدد للتعامل مع هذا الصراع، وبقاء تصريحاتها على السير في خطة السلام الخاصة بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة – أساسا خصوعا لرغبة المملكة العربية السعودية.
بينما يستخدم الحوثي الصراع في فلسطين والصراع في البحر الأحمر للتعبئة العسكرية وتجنيد عشرات الآلاف من المقاتلين الجدد (كان يواجه صعوبة في التجنيد، خصوصا بعد الاستنزاف الكبير الذي تعرض له في معركة السنتين الأخيرتين في مأرب والذي ربما كان فشله فيه السبب الرئيس لإيقافها)، وبينما ترتفع معنويات أنصاره المخلوطة بعقائد دينية عن آخر الزمان وظهور السفياني واليماني – والتي تشيع حتى في أوساط مثقفيه غير المتدينين، فقد كان الكاتب المغتال المرحوم عبدالكريم الخيواني يكرر أن ما يخيف آل سعود من الحوثيين هو أساسا قول منجميهم بأن نهاية حكمهم سيكون على أيديهم! بل وذهب الحوثي إلى اختبار بالنار في أغلب نقاط تماسه مع قوات أعدائه حتى في السعوديه، وكان أهم تلك الهجمات الهجوم على بيحان في شبوة وحريب في مأرب. وبالتالي فإن الحوثي يظن ويتصرف على أن الحرب في فلسطين والصراع في البحر الأحمر يمكنه لا من التحول إلى رقم في النفوذ الدولي والإقليمي على خطوط الملاحة الدولية، بل من التعبئة والتحشيد للتوسع والسيطرة على مناطق جديدة، خصوصا مناطق النفط والغاز في مأرب وشبوة.
لذا فإن اكتفاء الحكومة الشرعية بخطاب يلاقي المجتمع الدولي والقوى الدولية الكبرى بالتحذير من خطر الحوثي وانتظار تبرع تلك القوى بدعمها وتقديم العون العسكري لها سيضيع فرصة أخرى لها، بل ويمكن الحوثي من الإقدام على مزيد خنقها. على الحكومة الشرعية وحلفائها أن تدرك أن أحدا لن يقدم لها شيئا دون أن تقوم بخطوات على الأرض، لذا -والحديث لأطرافها العسكرية خصوصا- فإنه دون خطوات على الأرض ودون ركل الباب، خصوصا في ساحل الحديدة وتعز، فإن انتظار أي دعم لن يكون سوى أوهام وسيعزز رواية أعدائهم أنهم قوى تعمل لمصلحة القوى الأجنبية لا قوى محلية ووطنية تستغل أي ظرف جديد لمصلحة قضيتها، كما سبق للحوثي الاستفادة من دعم التحالف الدولي ضد الإرهاب في معاركه في رداع والبيضاء