لا يزال ملف التجسس واحداً من أبرز الملفات الشائكة في الحرب بين الشرعية اليمنية والتحالف العربي من جهة، ومليشيا الحوثي ومن يقف في صفها من الخبراء الأجانب من جهة أخرى.
في هذا التحقيق الذي استغرق قرابة العام من البحث والتقصي، وانطلاقاً من لقاء عشرات الضحايا، نميط اللثام عن واحد من الاستخدامات المتعددة لقطاع الاتصالات الذي يخضع لسيطرة جماعة الحوثي في العاصمة صنعاء.
ومن خلال الوثائق السرية التي حصلنا عليها، مثلت الاتصالات لجماعة الحوثي بنك معلومات مهم للغاية، في إطار الحرب الدائرة بينها وبين الجيش اليمني، إذ تمكنت من تتبع تحركات القيادات والقوات العسكرية وسير العمليات والحالة المعنوية لقوات الشرعية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد. بل عملت وفق وثائق تحتفظ بها “اندبندنت عربية” على تعقب شبكات من أرقام الهواتف لأشخاص مقربين أو على ارتباط بالقادة العسكريين وزعماء القبائل عبر شركات الاتصالات تلك.
وفي هذا التحقيق، تأكدنا من صحة المعلومات ودقتها، وتبعية أرقام الهواتف للقادة والمشائخ المرصودين من قبل جماعة الحوثي، الذين شملهم التحقيق كنماذج، فيما تبقى عشرات الحالات المماثلة التي حصلنا على بياناتها قيد الدراسة والتحقق أيضاً.
معركة مأرب لم تكن بالرصاص فقط
في منتصف عام 2015، ضاعفت جماعة الحوثي من هجماتها العسكرية على مدينة مأرب، في محاولة مستميتة للسيطرة على المحافظة النفطية، وآخر المناطق الخاضعة لقوات الحكومة الشرعية والمقاومة الشعبية شمال شرقي اليمن.
وبعد أن وصلت المعركة إلى طريق مسدود بالنسبة إلى الجماعة، إثر صمود القوات الشرعية على مشارف المحافظة النفطية، بدأت بوضع عدد من القيادات الذين يمسكون زمام الأمور في المعركة على قوائم التنصت في فترة مزامنة، بحسب الوثائق.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت جماعة الحوثي قد أدرجت جميع أرقام الهواتف النقالة الخاصة والمتصلة بالعميد ناجي منيف، قائد الحزام الأمني لمدينة مأرب عام 2015، تحت الرصد والمراقبة.
وتسرد الوثائق الحصرية أسماء عدد من المدرجين تحت المراقبة عبر هواتفهم المحمولة، بعضهم قتلوا في مواجهات مع جماعة الحوثي، بينهم قائد الشرطة العسكرية في محافظة مأرب حينها العميد عبدالله دحوان، الذي قتل في نهاية عام 2016 في مواجهات مع الحوثيين في مديرية صرواح. والعميد ركن طيار بكيل ظفر، قائد قوات حفظ السلام، الذي قتل هو الآخر في مواجهات مع الحوثيين شرق صنعاء.
وامتد الرصد والمراقبة من قبل الحوثيين ليطال قيادات عسكرية عليا، مثل اللواء صغير بن عزيز الذي يشغل حالياً منصب رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش اليمني حيث تم ضم رقم هاتفه السعودي إلى جوار رقمه اليمني، وتم اعتراض عشرات المكالمات له وهو في الخارج من طريق اعتراض المكالمات الدولية إلى اليمن. كما تم ضم عدد ممن تواصل معهم ضمن القائمة، إضافة إلى قائمة تضم أبناءه وشقيقه ونساءً من عائلته.
الفريق الركن محمد المقدشي، وزير الدفاع اليمني الحالي، شملته عملية المراقبة والرصد من قبل الحوثيين، في الوقت الذي كان يشغل منصب رئيس هيئة الأركان في الجيش اليمني. وقد أُخضع رقما هاتفين تابعان له للمراقبة، أحدهما تم رصده من خلال اعتراض رسائل نصية لمقربين منه كانت قد وضعت أرقامهم أيضاً تحت المراقبة. والرقم الآخر، كان رقماً يتبع لشركة الاتصالات السعودية، وقد اعترض الحوثيون المكالمات الدولية الصادرة عنه والواردة إليه من الداخل اليمني.
وشملت القائمة محمد أحمد علي القردعي، الذي عمل مستشاراً لرئيس هيئة الأركان السابق. وهو شخصية قبلية من أبناء قبيلة مراد في محافظة مأرب.
وراقبت الجماعة عدداً من قيادات قوات الأمن الخاصة، الوحدة الأهم في المحافظة النفطية، بما في ذلك قائدها العميد عبد الغني شعلان، الذي أظهرت الوثائق أنه خضع للمراقبة بين عامي 2016 و2017. وقد قتل شعلان في مواجهات مع الحوثيين في المحافظة ذاتها في 26 فبراير (شباط) 2021.
وفي مطلع عام 2016، عندما وصلت قوات الشرعية إلى فرضة نهم شرق العاصمة اليمنية صنعاء، عملت الجماعة على تتبع عدد من زعماء القبائل فيها. وعلى سبيل المثال، وضعت رقم الشيخ القبلي عايض عصدان، الذي يعمل حالياً وكيلاً لمحافظة صنعاء في الحكومة الشرعية، تحت المراقبة والتتبع وعملت على رصد رقمين كانا على تواصل مستمر معه. وعند سؤالنا عصدان عن ملكية الأرقام التي عمل الحوثيون على إضافتها إلى قائمة الرصد والتتبع، أجاب “أحد الأرقام لأحد أقربائي والرقم الآخر لأحد مرافقي رئيس هيئة الأركان في الجيش اليمني حينها”. الذي بدوره لم ينج مما تم رصده في هذا التحقيق.
وأوضحت البيانات تمكن الحوثيون من الوصول إلى معلومات مهمة عبر التجسس على القيادات العسكرية والأمنية ورجال القبائل الذين يساندون الجيش. وتتضمن تحرك القوات العسكرية والتعزيزات التي تطلبها القيادة، وشيفرات لأجهزة الاتصالات اللاسلكية العسكرية، ومعرفة مواقع تمركز محطات الاتصالات وحجم الدعم المقدم من قوات التحالف العربي لقوات الشرعية، وذلك عبر وضع كل مسؤولي الدعم اللوجستي في قوات الجيش الموجودين في منفذ الوديعة الحدودي مع السعودية تحت المراقبة إضافة إلى فلترة عشرات الاتصالات والرسائل النصية لعدد من القادة الميدانيين في قوات الشرعية لمعرفة الحالة المعنوية والتماسك بين الوحدات التي تم اتخاذ قرار مهاجمتها.
ولأن القوات الحكومية والقبلية التي تقاتل الحوثيين تعتمد بشكل كبير على خدمات شركات الاتصالات المركزية، التي تتخذ من صنعاء مقراً لها. فإن حجم البيانات والمعلومات التي حصلت عليها الجماعة كان كبيراً. وفق ما أثبتت الوثائق.
الجيش يدعو إلى تحرير الاتصالات
وفي إطار الاستقصاء والتحقق من مدى سلامة الاتصالات من جانب الجيش الوطني، حصلنا على عشرات الوثائق السرية، التي نتحفظ عن نشر بعضها لأسباب متعددة هي عبارة عن برقيات شكاوى ومناشدات وبلاغات عاجلة من قيادات في الجيش إلى المسؤولين في الحكومة اليمنية، تطالب بتحرير الاتصالات من سيطرة الحوثيين.
وعلى الرغم من كثافة البرقيات في شأن إيجاد اتصالات آمنة للجيش، التي بدأت قبل ست سنوات. إلا أنه حتى اللحظة ما تزال جماعة الحوثي تسيطر على شبكة الإنترنت والاتصالات في مختلف المحافظات اليمنية.
وتشير وثيقة من وزارة الدفاع اليمنية موجهة إلى وزير الاتصالات في حكومة الشرعية لطفي باشريف، مؤرخة بتاريخ 3 أبريل (نيسان) 2018، إلى الانقطاعات المتكررة للاتصالات والإنترنت، وضرورة إيجاد حلول من قبل الجهات المعنية، مع تأمين حل جذري لمنع تكرار هذا الانقطاع.
وفي تواصل حصل في نهاية عام 2020 مع وزير الاتصالات حينها لطفي باشريف، للاستيضاح حول الخطوات التي قامت بها الوزارة لمعالجة هذه القضية. رفض الوزير الرد أو الإدلاء بأي معلومة حول الملف.
بدوره، لم يرد وزير الاتصالات الحالي نجيب العوج على الاستفسارات. وأعقب الاتصال غير المثمر بإعلان عام. أكد فيه إجراء تفاهمات بين وزارة الاتصالات والمؤسسة العربية للاتصالات الفضائية (عرب سات) لتغطية الجمهورية اليمنية بالاتصالات والإنترنت عبر الأقمار الصناعية إضافة إلى تفاهمات أخرى مع شركات اتصالات في السعودية والإمارات وسلطنة عمان، وفق ما ذكر تقرير مقدم منه إلى مجلس الوزراء حول أعمال الوزارة في النصف الأول من العام الحالي ونتائج زيارته إلى السعودية. ولم يفصح الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء الرسمية “سبأ” عن مزيد من التفاصيل حول تلك الوعود وموعد تنفيذها.
منع الهواتف في جبهات الشرعية
وفي سياق بحثنا وسعينا لاستكمال الصورة حول أهمية الاتصالات ومحورية هذا القطاع في المعركة الدائرة بين الشرعية والانقلاب الحوثي. حصلنا على وثيقة من وزارة الدفاع اليمنية عالية السرية مؤرخة بتاريخ 2021، موجهة إلى قيادة القوات العسكرية في مناطق المواجهات. تقضي بمنع إدخال الهاتف المحمول إلى الجبهات، لقيام الميليشيات بجمع “أرقام القيادة العسكرية الخاصة في كل جبهة على حدة. ومراقبة تحركاتها على مدار الساعة واستخدام ذلك في رفع إحداثيات دقيقة وبشكل سريع جداً إلى وحدات المدفعية والطائرات المسيرة والصواريخ التابعة للحوثيين”. بحسب ما نص التوجيه الرسمي.
وقد حصلنا على وثيقة خاصة من أكبر شبكة مشغل للهاتف النقال في اليمن “سبأفون”. موجهة إلى السلطات المحلية في محافظة مأرب، تحت عنوان “بلاغ عاجل” عن محاولة الحوثيين إحداث اختراق أمني للاتصالات في مناطق الشرعية.
ونص البلاغ على الآتي “نرفع لعنايتكم هذا البلاغ العاجل بوصول معلومات مؤكدة عن شروع الانقلابيين الحوثيين بتمرير وتحميل اتصالات غير آمنة في مناطق الشرعية من طريق استخدام محطات قديمة متوقفة منذ بداية الحرب تابعة لشركة “واي” التي يسيطر عليها الحوثيون في صنعاء. حيث يعمل الانقلابيون الحوثيون في الآونة الأخيرة على إرسال مهندسين وأجهزة لإعادة تشغيل المحطة المتوقفة عن العمل منذ عام 2015. وإذا تمكنوا من ذلك فسوف يقومون بتعريف شرائح اتصالات “سبأفون – واي” من سنترالات صنعاء التي يتحكم بها الانقلابيون، والتنصت على اتصالات مستخدمي هذه الشرائح في المناطق المحررة وفي هذا تعد سافر يتعارض مع قرارات رئيس الجمهورية ورئاسة الوزراء ووزارة الاتصالات بخصوص نقل التحكم وتشغيل شبكة “سبأفون” للاتصالات الآمنة من العاصمة المؤقتة عدن. وعليه نبلغكم بهذا الأمر الأمني المهم، لاتخاذ إجراءاتكم العاجلة لتفادي الاختراق الأمني. ومنع إعادة تشغيل محطات شركة “واي” الواقعة في مناطق الشرعية. وإطفاء أي محطة قد نجحوا في تشغيلها أو تحميل اتصالات عبرها، ومنع مهندسيهم وعناصرهم الآثمة من التوغل والنشاط بأي صورة في المناطق المحررة تحت ظل الحكومة الشرعية للجمهورية اليمنية. كما نرجو ضبط واعتقال أي من تلك العناصر والتحقيق معهم وتحريك الدعوى الجزائية ضدهم وضد كل من أسهم واشترك في اختراق الاتصالات وغيرها من الجرائم بحق الشركة ومحطاتها ووسائل الاتصال التي تملكها الشركة، وتستخدم في تقديم خدمة عامة لجمهور مواطني الجمهورية في المناطق المحررة”. وكان الخطاب موقعاً باسم الشركة اليمنية للهاتف النقال في المقر الرئيس في عدن.
وبحسب المصادر الخاصة في وزارة الاتصالات اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين في صنعاء، فإن الجماعة حاولت اغتيال عدد من القادة العسكريين عبر التتبع بالاتصال، من بينهم اللواء أمين الوائلي، الذي قتل في مطلع عام 2021، والعميد سيف الشدادي، الذي وافته المنية متأثراً بإصابته بفيروس كورونا. فيما نتحفظ عن ذكر عدد من الأسماء الأخرى حفاظاً على مصادرنا.
ولم تفلح محاولات “اندبندنت عربية” للحصول على تعليق رسمي من قيادة الميليشيات السياسية حول التهم التي تضمنها التقرير بتورطها في شبكة التجسس. وتلتزم الصحيفة بنشر التعليق فور وروده أو رغبة أي طرف طاله التقرير بالرد.