سنلتقي على الأرجح في السعودية لأول مرة” بهذا الإعلان رشّح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، السعودية لتكون مكانا للقاءٍ مرتقب مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، لمناقشة وضع حد للحرب بين روسيا وأوكرانيا.
ورغم أن ترامب لم يحسم الموعد أو الوجهة بشكل قاطع، إلا أنه قال إنه سيكون في المستقبل القريب، بل وذهب إلى حدّ القول إن ولي العهد السعودي سيشارك أيضاً في الاجتماع.
وجاء تصريح ترامب بعد ساعات من مباحثات هاتفية منفصلة مع بوتين والرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ركزت على فرص تحقيق السلام.
وبعد ساعات، نقلت وكالة تاس الروسية للأنباء عن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن التحضيرات لعقد قمة روسية-أمريكية ربما تستغرق أشهرا عدة، لكنّ الجانبين اتفقا على أن الرياض قد تكون “المكان المناسب” للّقاء.
اتصال ترامب- بوتين وما جرى الإعلان عنه من إمكانية عقد قمة تجمعهما في السعودية، رحّبت به وزارة الخارجية السعودية، وأكدت استمرارها في بذل جهودها لتحقيق سلام دائم بين روسيا وأوكرانيا والتي بدأت منذ اندلاع الأزمة، مشيرة إلى ولي العهد سبق أن أبدى استعداد المملكة لبذل مساعيها للوصول إلى حل سياسي للأزمة.
كما كشف ترامب، في تصريح آخر، عن احتمالية أن ينعقد اجتماع في السعودية الأسبوع المقبل بين مسؤولين أمريكيين وروس رفيعي المستوى تكون أوكرانيا جزءا منه أيضا، مع العلم أن موقف كييف واضح لجهة أنه ينبغي أن يكون هناك موقف مشترك متّفق عليه مع حلفائها على الطاولة للتحادث مع الروس، كما يدعو واشنطن إلى التوافق على موقف لـ”وضع حد” لروسيا قبل إجراء أي مفاوضات معها.
لماذا السعودية؟
أشار الرئيس الأمريكي إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان سيلعب دورا في المناقشاتصدر الصورة،BBC Images
عقد ترامب وبوتين لقاءاتهما في الماضي وجها لوجه في العاصمة الفنلندية هلسنكي وفي أوساكا اليابانية على هامش قمة مجموعة العشرين، علما أن دولا أخرى قدّمت نفسها كمواقع محتملة لهذه القمة، كالصين والإمارات بحسب بعض التقارير الصحفية.
ويرى نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، بول سالم، أن اختيار السعودية كموقع محتمل لعقد لقاء ترامب-بوتين، يعود إلى توفيرها مكانا محايدا.
ويضيف سالم في حديث لبي بي سي عربي إن الأمر كان ممكنا في أوروبا الغربية، لكنّ الأجواء اليوم غير حيادية في الموضوع الأوكراني-الروسي تحديدا، فضلا عن أن السعودية من خلال علاقاتها القوية مع ترامب وإدارته الأولى والحالية، وعلاقاتها القوية أيضا مع بوتين، تشكّل مكانا ممكنا للاجتماع بعيدا عن التجاذبات الموجودة في أوروبا.
أما أستاذ العلاقات الدولية، د. خطار أبو دياب، فيشير إلى أن جنيف أو غيرها من المدن الأوروبية المحايدة كانت تُختار عادة لمثل هذه الاجتماعات، لكنّ تدهور صلات موسكو مع سويسرا وتغير مواقف بعض الدول الأوروبية، جعلا هذا الاختيار أكثر ترجيحا، ولا سيما أن السعودية نجحت في نسج علاقات ثقة ومصالح متبادلة مع بوتين، فضلا عن أنها ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية.
في عام 2023 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق بوتين، وذلك بتهمة ارتكاب جريمة حرب على خلفية الحرب في أوكرانيا.
وبحسب بعض المتابعين، باستطاعة بوتين السفر إلى السعودية لإجراء محادثات دون المخاطرة بتوقيفه.
جاء تصريح ترامب بعد ساعات من مباحثات هاتفية منفصلة مع بوتين والرئيس الأوكراني
يقول متابعون إن السعودية استطاعت خلال السنوات الماضية من أن تثبت مكانتها كلاعب رئيسي في الدبلوماسية العالمية، ونجحت مؤخرا في التوسط لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، ما أكسبها ثقة الطرفين.
آخر تلك الوساطات تلك التي أدت إلى صفقة تبادل للسجناء أفرجت روسيا بموجبها عن المدرّس الأمريكي، مارك فوغل، بعد سجنه لأكثر من ثلاث سنوات، و”كان لولي العهد السعودي دور فعال في إطلاقه”، كما قال المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
كذلك استقبلت السعودية كلا من زيلينسكي وبوتين في مناسبات عدة، وسعت للتوصل إلى حل يفضي إلى سلام دائم بين البلدين، واستضافت لهذا الغرض اجتماعا في مدينة جدة لممثلي عدد من الدول.
وخلال زيارة بوتين إلى الرياض في ديسمبر/ كانون الأول 2023، وصفه بن سلمان بأنه “ضيف خاص وعزيز جدًا على السعودية حكومة وشعبا”.
يرى الأكاديمي المختص في العلاقات الدولية وشؤون الخليج والشرق الأوسط ، عبد الله باعبود، أن المملكة تسعى للعب دور الوسيط بينما كانت دول أخرى تقوم بهذا الدور مثل سلطنة عمان وقطر والامارات، ويقول لبي بي سي نيوز عربي إنها “استطاعت أن تبرز في المواضيع الكبرى”، واصفا ذلك بأنه “جزء من القوة الناعمة التي تستخدمها لترسيخ مكانتها كدولة إقليمية مهمة في العالم”.
وبرأي باعبود، فإنّ استضافة السعودية لاجتماع قمة من هذا النوع، ربما يكون بمثابة هدية دبلوماسية أمريكية مقابل حثّها على تعزيز انخراطها في الاتفاقيات الإبراهيمية.
أما نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، بول سالم، فيقول إن ترامب يسعى لتعزيز علاقاته بالسعودية لأسباب اقتصادية واستراتيجية، كما أنه يسعى لاتفاقية أميركية-سعودية-إسرائيلية يوما ما.
ويعتقد الخبير في الشؤون الاستراتيجية العميد، حسن الشهري، أنّ اختيار ترامب وبوتين للرياض مكانا للقائهما، هو لمعرفتهما بأنها الأنسب لحفاظها على علاقات متوازنة مع كل الدول، كما أنها “وسيط دبلوماسي قوي ونزيه” للعديد من التحديات والتهديدات الإقليمية والدولية ونجحت بذلك.
ويضيف الشهري أن السعودية تدرك أن نجاح القمة سيلقي بظلاله على كثير من مناطق التوتر حول العالم ومنها القضية الفلسطينية، لما لهذه المنطقة من أهمية بالغة لدى القوتين – أي الولايات المتحدة وروسيا.
أما أستاذ التواصل الاستراتيجي والعلاقات الحكومية، د. نضال شقير، فيرى أن السعودية بلد مهم لسياسات ترامب في الشرق الأوسط ولا سيما عند الحديث عن القضية الفلسطينية وصفقة القرن التي يحاول تمريرها، والتي قد تكون لها انعكاسات على العالم العربي والإسلامي إذا مضت قدما.
ويلفت شقير في هذا الإطار إلى الضغوط الأمريكية التي مورست على السعودية في الفترة الأخيرة وتصريح رئيس وزراء إسرائيل عن نقل أهل غزة إلى المملكة إذا أرادت إقامة دولة فلسطينية وما صدر بعدها من بيانات رسمية سعودية رافضة.
تُعدّ الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، تليها السعودية وروسيا.
ونظرًا لتأثير الحرب الروسية الأوكرانية على أسواق الطاقة العالمية، يشير الخبراء إلى أن السعودية لعبت دورًا في الحفاظ على استقرار أسواق النفط وتوازنها.
يقول عبد الله باعبود إن السعودية وروسيا تتقاطع مصالحهما باعتبارهما من كبار منتجي النفط، كما ساعدت العلاقة بينهما على إبرام اتفاقيات عدة ضمن تحالف أوبك بلس، ويتوقع أن تركز قمة ترامب-بوتين ليس فقط على إنهاء حرب أوكرانيا، بل أيضًا على أسعار النفط العالمية والتعاون الاقتصادي.
ويضيف أن ترامب قد يسعى إلى تأمين أسعار نفط تفضيلية لشركات الطاقة الأمريكية، خصوصا بعدما دعا إلى خفض الأسعار.
يقول باعبود إن سياسة ترامب تركّز على استخراج النفط على حساب الطاقة المتجددة النظيفة، وهو الأمر الذي يقرّبه من السعودية كونها أحد أكبر منتجي النفط، هو القائل في حفل التنصيب “احفر يا عزيزي، احفر! أو Drill baby drill”
ويشير عبد الله باعبود إلى أن أول زيارة خارجية لترامب خلال ولايته الأولى كانت إلى السعودية، ما منح المملكة مكانة دبلوماسية تتماشى مع طموحاتها، في ظل المنافسة مع دول إقليمية أخرى.
وقد ألمح ترامب بالفعل إلى أن أول زيارة خارجية له في ولايته الثانية قد تكون مرة أخرى إلى المملكة، لكنه وضع شرطًا لها.
وقال في يناير/كانون الثاني الماضي للصحافيين في البيت الأبيض: “إذا أرادت السعودية شراء ما قيمته 450 أو500 مليار، فأعتقد أنني غالبا سأذهب هناك”.
بعدها اتصل به ولي العهد السعودي، مؤكدًا رغبة المملكة في توسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة في الأربع سنوات المقبلة بمبلغ 600 مليار دولار مرشحة للارتفاع.
لكنّ ترامب، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، قال: “سأطلب من ولي العهد، وهو شخص رائع، أن يرفع المبلغ إلى تريليون دولار تقريبًا”.
وأضاف: “أعتقد أنهم سيفعلون ذلك لأننا كنا جيدين جدًا معهم”.
وعن هذا الموضوع يقول أستاذ التواصل الاستراتيجي والعلاقات الحكومية، د. نضال شقير، إن ترامب اختار السعودية لأن تكون شريكه الرئيسي الاستراتيجي سياسيا واقتصاديا من خلال الاستثمارات.
برأي شقير فإن التوجه الأمريكي هو للاستحواذ بشكل كبير على الشراكة مع دول الخليج وخصوصا السعودية، وتحديدا بعد التنوع الاستراتيجي والانفتاح شرقا في عهد بايدن.
ويتحدث عن حذر سعودي من “النسخة الثانية لترامب”، ويقول إن المملكة لن تضع حدا لعلاقاتها مع الصين على وجه الخصوص، لكن إدارة ترامب تسعى لأن تكون لها الحصة الأكبر ضمن ضوابط وهوامش معينة.
ويتوقف د. خطار أبو دياب أيضا عند سعي ترامب ضمن الاستراتيجية الأمريكية التنافسية مع الصين إلى محاولة التأثير والتأكيد على النفوذ الأمريكي التاريخي في المملكة وجوارها، ويقول إن هذه الخطوة كما المفاوضات الدائرة منذ إدارة الرئيس السابق جو بايدن لصياغة اتفاق استراتيجي ثنائي بين واشنطن والرياض، تندرج في هذا الإطار.
يقول متابعون إن علاقة شخصية وطيدة نشأت بين بن سلمان وترامب، وبينه وبين بوتين، وهو الأمر الذي قاله ترامب علنا: “بوتين وأنا نعرف ولي العهد جيداً”…
ويشير د. خطار أبو دياب إلى أن العلاقة الجيدة بين ترامب وبن سلمان تعود لولايته الأولى، وكان صهر ترامب – جاريد كوشنر منسق العلاقة التي تطورت في تلك الحقبة، كما كان ولي العهد السعودي كان أول زعيم أجنبي يتحدث إلى ترامب العائد إلى البيت الأبيض.
لطالما شكّل ملف حقوق الإنسان تحديا بالنسبة للسعودية وبقي تحت المجهر على الرغم من إعلانها الشروع في عدد من الإصلاحات.
وفي هذا الإطار يقول أبو دياب إن المملكة لها مصالحها مع واشنطن واتخذت خطوات كبيرة ثورتها الثقافية وتحسين سجل حقوق الإنسان حسب المعايير الغربية، وبالتالي لم يعد لهذا الملف من تأثير كبير في زمن رئاسة ترامب ” الإمبريالية”، على حدّ تعبيره.
شقير أيضا اعتبر أن صورة المملكة تحسّنت كثيرا في السنوات الأخيرة، وهذا كان بمعزل عن الضغوط السياسية التي مارستها إدارة بايدن.
ويضيف أن حقوق الانسان تصبح أداة سياسية عند مصالح الدول الكبرى، فعندما يكون هناك تعاون سياسي، ينتفي وجود هذه الأداة السياسية وبالتالي لا يعود الضغط موجودا.