اختلت المعادلة اليمنية. باتت هناك حلقة مفقودة. لم يعد اليمن هو اليمن في غياب علي عبدالله صالح. قبل أربع سنوات، يوم الرابع من كانون الأوّل – ديسمبر 2017 تحديدا، اغتال الحوثيون في صنعاء الرئيس اليمني السابق، الذي بقي في موقع الرئاسة بين صيف 1978 والشهر الثاني من العام 2012. لم تكن هناك حاجة إلى اغتيال الرجل الذي لعب الدور الأساسي في صنع الوحدة اليمنيّة للتأكّد من أن هذه الوحدة انتهت من جهة وأنّ اليمن الذي عرفناه، صار جزءا من الماضي من جهة أخرى.
عمليّا، انتهت الوحدة يوم سلّم علي عبدالله صالح، استنادا إلى المبادرة الخليجية، سلطاته إلى نائبه عبدربّه منصور هادي كرئيس مؤقت. المفارقة أنّ هذا المؤقت مستمرّ منذ تسع سنوات. يبدو أنّ عبدربّه منصور، المقيم خارج اليمن، نظرا إلى أنّه لا يستطيع العودة إلى مسقط رأسه في محافظة أبين الجنوبيّة، سيبقى رئيسا مؤقتا مدى الحياة!
جاء التخلص من علي عبدالله صالح، كرئيس لليمن، تتويجا لحلف غير معلن بين جانبين هما الإخوان المسلمون والحوثيون. عمل الحوثيون لمصلحة الإخوان، وعمل الإخوان لمصلحة الحوثيين. أراد كلّ منهما التخلّص من علي عبدالله صالح استنادا إلى أجندة خاصة به. انتهى الأمر بخوض هذين الجانبين في أواخر السنة 2021 حربا يمكن وصفها بأنّها حرب استنزاف لهما في مأرب بعد سنوات طويلة من التواطؤ بينهما برعاية الرئيس المؤقت. وفّر عبدربّه منصور هادي شرعية للحوثيين عندما وقع “اتفاق السلم والشراكة” معهم غداة وضع يدهم على صنعاء في الحادي والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. لم يوفّر الرئيس المؤقّت شرعية للحوثيين فحسب، بل أمّن لهم أيضا غطاء من الأمم المتحدة التي باركت “اتفاق السلم والشراكة” الذي وقّعه معهم عبر حضور جمال بنعمر الاحتفال كمبعوث الأمين العام للمنظمة الدولية وقتذاك.
لا شكّ أن علي عبدالله صالح ارتكب أخطاء كثيرة في السنوات الطويلة التي أمضاها رئيسا والتي شهدت فترة استقرار لم يعرف اليمن مثيلا لها توّجت بإعلان الوحدة في الثاني والعشرين من أيّار – مايو 1990. الوحدة بسلبياتها وإيجابياتها. من بين هذه الإيجابيات أنّه لولا الوحدة لما أُمكن ترسيم الحدود السعوديّة – اليمنيّة أو العُمانيّة – اليمنيّة.
لكنّ كلّ هذه الأخطاء لا تبرّر الانقلاب الذي نفّذه الإخوان المسلمون الذين اعتقدوا أن “الربيع العربي” سيوصلهم إلى السلطة وأنّ عليهم التخلّص من علي عبدالله صالح أوّلا.
في الواقع، نزل شبان يمنيون إلى الشارع مطلع العام 2011 وطالبوا بإسقاط النظام في وقت ضاقت الحلقة الضيّقة التي أحاطت بالرئيس اليمني الذي حاصرته فكرة توريث ابنه الأكبر أحمد منذ ما قبل العام 2006 بسنوات عدّة بعدما قرّر خوض الانتخابات الرئاسيّة مرّة أخرى. قرّر خوض الانتخابات متراجعا عن خطاب سابق أعلن فيه أنّه قرّر التخلّي عن السلطة.
استطاع الإخوان المسلمون خطف التحرّك الشبابي والشعبي في الشارع. هذا التحرّك الذي تحوّل إلى اشتباكات في داخل صنعاء. أخذ الصراع في داخل صنعاء بعدا جديدا في ضوء حصول انشقاقات داخل القوّات المسلّحة. كان أبرز الانشقاقات تمرّد اللواء علي محسن صالح الأحمر، قريب علي عبدالله صالح وقائد الفرقة الأولى مدرع، الذي كان يمتلك وزنا داخل المؤسسة العسكرية، كما كان من المعترضين على التوريث. كانت حجته أنّه إذا كان من وريث، فهو الشخص المؤهل لشغل موقع خليفة علي عبدالله صالح.
ما نشهده في اليمن اليوم نتيجة مباشرة للانقلاب الذي نفّذه الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح، وصولا إلى محاولة اغتياله في دار الرئاسة في الثالث من حزيران – يونيو 2011. يضاف إلى ذلك، في طبيعة الحال، الحقد الذي كان يكنّه عبدربّه منصور لمن كان رئيسه. ما نشهده صبّ في مصلحة الحوثيين، أي في مصلحة المشروع الإيراني في اليمن.
إذا كان علي عبدالله صالح أوّل من خدعه الحوثيون الذين، ساهم في صنعهم وما لبث أن خاض معهم ست حروب، بين 2004 و2010، فإنّ الإخوان لعبوا لعبة خاصة بهم. مشكلتهم في أنّهم لم يدركوا في أيّ وقت أنّ كل ما قاموا به صبّ في مصلحة المشروع الإيراني في اليمن.
معروف لماذا تآمر الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح. لديهم شبق ليس بعده شبق إلى السلطة. معروف أكثر لماذا اغتال الحوثيون الرئيس السابق الذي حاربه الرئيس المؤقت منذ العام 2012. قضى الرئيس عبدربّه عمليا على القوّة العسكرية الوحيدة التي كان في استطاعتها حماية صنعاء من الحوثيين. كانت هذه القوّة المدرّبة تدريبا حديثا (الحرس الجمهوري) بقيادة أحمد علي عبدالله صالح الذي أبعد عن صنعاء. حرص على تفكيك هذه القوّة التي بات من الصعب استعادتها.
ساهمت عوامل عدّة في وصول اليمن إلى ما وصل إليه وتحوّل شماله إلى قاعدة صواريخ وطائرات مسيّرة إيرانيّة. بين هذه العوامل عدم فصل بعض دول الإقليم بين علي عبدالله صالح والحوثيين. يعود ذلك إلى غياب المعرفة الدقيقة بالتحولات التي شهدها اليمن منذ العام 1994، بعد انتصار علي عبدالله صالح في حرب الانفصال وتهميش الحزب الاشتراكي لمصلحة الإخوان المسلمين وقوى إسلاميّة متطرّفة تدور في فلكهم.
بعد أربع سنوات على اغتيال علي عبدالله صالح، تغيّر اليمن كلّيا. بات يمكن الحديث عن حلقة مفقودة في بلد فقد كلّ توازنه وفقد المركز، أي صنعاء. صار بلدا من دون مركز. ليس في الإمكان تعويض الرئيس اليمني الراحل الذي يبقى، على الرغم من المزاجيّة التي حكمت تصرفاته في السنوات الـ15 الأخيرة من حكمه، شخصا استثنائيّا.
هذا يعني بكلّ بساطة أنّ اليمن، دخل منذ ما قبل اغتيال علي عبدالله صالح في رحلة المجهول. كان الرجل، بحسناته وسيئاته، عنصر توازن. بات هذا العنصر مفقودا كلّيا. الأكيد أن ليس ما يوحّد اليمن بعد الآن. الأكيد أيضا أن القوى الإقليمية المعنيّة باليمن لم تقدّر قيمة علي عبدالله صالح وأهمّيته وأهمّية التعاطي معه، على الرغم من صعوبة هذا التعاطي. أيّ يمن بعد رحيل علي عبدالله صالح؟ لا يزال السؤال مطروحا على الرغم من مرور أربع سنوات على غياب الرجل.
– صحيفة العرب اللندنية