فتحت صحيفة بريطانية، ملف دفن الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، الذي قالت عنه إنه خلال فترة حكمه الأطول الذي امتد 33 عاماً، صلى على كل الزعماء الذين سبقوه، ولكن حينما قتل وحانت جنازته لم يجد من يشيعه من الصف الطويل الذي كان يحيطه إحاطة قواته بسور “دار النهدين الرئاسي”، أو يتعرف على مكان مرقده حتى اليوم.
وأضافت صحيفة “إندبندنت” في تقرير لها، قائلة: إنها مفارقة تراجيدية لم يتوقعها أشد المتشائمين لنهاية الثعلب الماكر الذي تسلق كل حبال السياسة وجبال الحكم الملتوية الطويلة، ناهيك بالمحبين الذين لا يزال بعضهم يتعهد إقامة مراسم تشييع تليق بتوديع “الزعيم” بل والانتقام له من قاتليه في فجر الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 2017.
وأشارت إلى أنه ربما تجاهل هؤلاء حقيقة لا يزال بعض أنصار “الزعيم” يرفضونها مفادها أن صالح قتل بذات السلاح الذي سلمته يده لحلفائه الحوثيين نكاية بخصومه الذين قال إنهم “خبز يده وعجينها” ثم انقلبوا عليه “بحثاً عن السلطة استغلالاً لموجة الاحتجاجات” الشعبية التي شهدتها ربوع اليمن في 2011 رفضاً لحكمه.
طي الصفحة
عقب الإعلان عن مقتله بواسطة بيان بثته قناة “المسيرة” الناطقة باسمهم، ظل الحوثيون يكيلون الشتائم وتهم الخيانة لصالح وحزبه عبر وسائل إعلامهم واتهامه بالتآمر على البلاد.
وعقب عملية تجريف واسعة في مثل هذه الأيام قبل ستة أعوام، طاولت حزب “المؤتمر الشعبي العام” ومنتسبيه، دانت السيطرة الميدانية والسياسية في العاصمة صنعاء ومعظم محافظات الشمال اليمني لميليشيات الحوثي، وطي صفحة صالح الذي أشعل انتفاضة شعبية ضدهم في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) بعد أن اتهمهم بالإخلال بالشراكة الموقعة بينهما في أعقاب انقلاب الميليشيات في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، والسيطرة على مؤسسات الدولة ورفض دفع المرتبات.
وبمقتل الرئيس الذي تولى الحكم خلال (1978 – 2012)، كأطول فترة يشهدها المنصب لرجل واحد، أسدل الستار على حقبة مثيرة في تاريخ اليمن المعاصر لا تزال تثير جدل الناس بعد أن صنعت أحداثاً ظلت اعتمالاتها ماثلة حتى اللحظة.
تضارب الروايات
وعلى رغم السيطرة الحوثية بعد التخفف من الشراكة مع صالح وحزبه، فإن الميليشيات لم تفصح عن جثة حليفها أو مكان قبره في ظل اتهامات واسعة لها بإخفائها والتحفظ عليها.
وفي يوليو (تموز) الماضي تحدثت ميليشيات الحوثي للمرة الأولى من طريقة مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح على لسان الناطق باسمها ورئيس وفدها المفاوض، محمد عبدالسلام، الذي قال إن الرئيس اليمني الراحل قتل بطريقة عفوية أثناء هربه من العاصمة اليمنية.
وأضاف محمد عبدالسلام خلال لقاء مع قناة “روسيا اليوم”، أن الرئيس الراحل، دفن بحضور أبنائه.
وهذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها الحوثيون بشكل رسمي دفن جثة الرئيس السابق، خلافاً للمعلومات التي تتحدث عن التحفظ عليه في ثلاجة الموتى، ولكنها رواية ينفيها مصدر في حزب المؤتمر الشعبي تحدث لـ”اندبندنت عربية” بقوله، إن ميليشيات الحوثي تخفي جثمان صالح رغم إعلانها الصلاة عليه بحضور نجليه مدين وصلاح وزعمهم دفنه في منطقة حصن سنحان.
وأوضح المصدر أنه لا أحد يعلم مكان القبر الذي يزعمون دفنه فيه ولهذا يرجح احتفاظهم بالجثة حتى اليوم لحسابات سياسية، مشيراً إلى أن الميليشيات سعت بعد مقتل صالح لنشر ثلاث روايات عن مكان دفنه، الأول مقبرة المستشفى العسكري بمنطقة شعوب والثانية في مسقط رأسه والثالثة في السجن المركزي.
وبحسب المصدر، فإن تعدد هذه الروايات هدفه التشويش على ذاكرة اليمنيين لئلا يعرفوا مكان الرئيس السابق ونسيان أمره من ثم عدم المطالبة بتشييعه، إضافة إلى المساومة بجثته والتكسب سياسياً من ورائها.
بالحديث عن سبب تجاهل أسرة صالح للمطالبة بالجثمان، قال المصدر الراجح إن عائلة الرئيس الأسبق تريد التعامل مع الأمر وفقاً للتحكيم القبلي بحسب العرف الاجتماعي السائد، وهو تسلم الجثة وعدم دفنها حتى يتم الثأر لها.
الثأر لزعيم الميليشيات
يتوقع حقوقيون ونشطاء سياسيون أن الحوثيين يخفون جثة صالح في مكان سري، ويرفضون بشدة تسليمها لذويه أو السماح بإقامة مراسم تشييع رسمي، خشية خروج مناصري صالح ضدهم في العاصمة التي يحكمون قبضتهم عليها.
ولعل المثير في الأمر هو عدم حديث حزب صالح “المؤتمر الشعبي العام” عن مصير الضريح، ولا المطالبة بجثمانه، والأغرب منه صمت أسرته عن مجرد التطرق لهذا الأمر بشكل معلن حتى الآن.
ومثلما تعددت الروايات في شأن مكان وطريقة مقتله، تعددت الروايات أيضاً في شأن مكان القبر الذي لا يزال مجهولاً أو محل شك، في حين يذهب آخرون للحديث عن احتفاظ الحوثيين بالجثمان في ثلاجة.
الرواية الحوثية الرسمية تحدثت عن دفنه في مسقط رأسه بقرية حصن سنحان (جنوبي العاصمة صنعاء) وقالت، إن ذلك جرى بالاتفاق مع أسرته وقبيلته جنوب صنعاء بعد أن حرصت على أن تتم عملية الصلاة والدفن بطريقة سرية صامتة والتشديد على منع أي مراسم جنائزية أو جماهيرية خشية تحولها إلى غضبة شعبية أخرى ضدها.
وتزامناً ظهرت روايتان أخريان تتحدث الأولى عن دفنه في مقبرة المستشفى العسكري، والأخرى في السجن المركزي بالعاصمة في ذات المكان الذي يقال إن صالح دفن فيه جثة مؤسس الميليشيات الحوثية، حسين بدر الدين الحوثي، الذي قتل في يوليو (تموز) 2004 بمحافظة صعدة، معقل الميليشيات ومركز انطلاقها، خلال الحرب الأولى مع الجيش اليمني.
جنازة رئيس
رواية الحوثي تبناها أيضاً علي المطري، خطيب جامع دار الرئاسة في عهد صالح، الذي أصبح موالياً للحوثيين، إذ كشف عن حضوره صلاة الجنازة على الرئيس الأسبق كما ذكر أسماء خمسة من مشايخ قبيلة الرئيس لكنهم رفضوا الصلاة عليه.
وفي حديث سابق مع إحدى القنوات التلفزيونية التابعة للحوثيين، قال المطري إنه جيء بجثة صالح إلى جامع التوجيه المعنوي (وسط العاصمة) وتم التعرف عليها من قبل نجله الأصغر “مدين” الذي جاءت به الميليشيات من السجن بعد أسره وعدد من أشقائه لأجل الصلاة على والده.
كشف المطري أنه أدى صلاة الجنازة وحده على رئيسه السابق قائلاً “قبلت رأسه وقلت له أقابل الوفاء بالوفاء حياً وميتاً وصليت عليه بمفردي”، بعد أن رفض مشايخ سنحان (قبيلة الرئيس) الذين كانوا حاضرين، بحسب قوله.
عن سبب رفض الصلاة عليه، أوضح المطري أن أبناء صالح والمشايخ من قبيلته رفضوا أن “يتحملوا مسؤولية أمام الشعب اليمني بالتوقيع على دفنه” وطالبوا سلطات الحوثي “بإقامة جنازة رسمية كونه رئيس دولة”، ولكن الميليشيات رفضت الطلب بعد أن قالوا إنهم “يخشون حدوث خلافات ومناوشات”.
شأن سياسي
على الصعيد القانوني، سبق وصرح المحامي الخاص للرئيس الراحل، محمد المسوري، باحتفاظ الحوثيين بجثة صالح. واعتبر ذلك “جريمة تضاف إلى جريمة اغتيال الرئيس مع الأمين العام لحزب المؤتمر عارف الزوكا” في نفس المكان والزمان.
وأشار المسوري إلى أن طلبه جاء “تأكيداً على حق الرئيس صالح في أن يدفن بطريقة تليق به رئيساً سابقاً للجمهورية اليمنية”.
وقال المحامي، إن نائب المبعوث الأممي السابق، معين شريم “التقى الحوثيين في صنعاء وأكد له تهربهم من مطالب تسليم جثة صالح لأسرته لدفنها بعد جنازة تليق به رئيساً سابقاً، فردت الميليشيات على طلبه بأن الجثة قضية سياسية سيقومون بحلها مع حزب (المؤتمر الشعبي)”.
وتظل نهاية صالح وطريقة مقتله ومصير جثمانه واحدة من الفصول المثيرة التي تعيشها اليمن على نحو غير مسبوق، غير أن أكثرها إثارة تلك التي يرددها عدد من محبي الرئيس الراحل بأنه لا يزال حياً يرزق، وينتظر اللحظة المناسبة للعودة إلى واجهة المشهد مجدداً.
*إندبندنت