علي سالم البيض عن حرب الرفاق في جنوب اليمن: إعدام سالم ربيع علي بداية التصفيات (1–2)
سيرة سياسية
بشير البكر
علي سالم البيض نائبا للرئيس اليمني في مؤتمر صحافي في
تغطّي سيرة الزعيم اليمني الجنوبي، علي سالم البيض، فترة مفصلية من الصراع داخل ما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطي، التي قامت بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1967، واستمرّت حتى قيام الوحدة مع شمال اليمن في مايو/ أيار 1990. ويقدم البيض من موقعه القيادي في تلك التجربة روايته للخلافات بين رفاق الصف الواحد داخل الحزب الاشتراكي اليمني، الذي حكم الجنوب حتى قيام الوحدة بين الشطرين، ويكشف عن معلومات، للمرّة الأولى، عن تلك التجربة المهمة في الجزيرة العربية، ويضيء على تفاصيل الصراع، الذي بدأ بإعدام رئيس الجمهورية سالم ربيّع علي (سالمين) عام 1978، وانتهى بالحرب الأهلية في 13 يناير/ كانون الثاني 1986، بين جناحي علي ناصر محمّد وعبد الفتّاح إسماعيل الذي لقي مصرعه في تلك المواجهة، وتسلّم البيض القيادة في الجنوب. حاور البيض وأعدّ المذكّرات الزميل بشير البكر، وتنشر “العربي الجديد” مقطعاً منها في حلقتين، وتصدر قريباً، في كتاب بعنوان “علي سالم البيض… الوحدة والانفصال”، عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان. وفي ما يلي الحلقة الأولى:
غلاف كتاب علي سالم البيض
يشكّل إعدام رئيس اليمن الديمقراطي سالم ربيّع علي (سالمين) بعد أربعة أيام من الانقلاب عليه في 22 يونيو/ حزيران 1978 نقطة البداية في حرب الرفاق في اليمن الجنوبي، هل توافق على ذلك؟
استسلم سالمين بعد ظهر اليوم الثاني على رفض قرار عزله، وقدّم نفسه إلى صالح أبو بكر بن حسينون (قائد عسكري وسياسي ووزير أسبق للنفط)، لأنه يثق به على المستوى الشخصي. وجرى إحضاره في المساء إلى اجتماع المكتب السياسي (في الحزب الاشتراكي)، حيث أجريت له محاكمة شكلية، وصدر بحقّه حكم الإعدام، وقد أعدم في الليلة نفسها، ومعه جاعم صالح، الذي يُعدّ خسارةً بكلّ المقاييس، لأنه شابٌّ مثقفٌ وأديب، لكن مشكلته الأساسية كانت البابوية، ولا يمكن أيضاً نسيان الشاب الآخر، الذي كان واعداً، وهو علي سالم الأعور. وتعود محاكمة سالمين على وجه السرعة وإعدامه إلى الشعور بضرورة قطع دابر القتال الذي انفجر، فلو لم يصدُر القرار، ويُنفَّذه على وجه السرعة لاستمرّ القتال، لأن لسالمين أنصاره في أماكن كثيرة، وكانوا على استعداد للقتال حتى الموت، لكن حين يسقط القائد، يرمي المقاتل السلاح على العموم، وهذا ما حصل فعلاً.
كان الاعتقاد أنه رجّحت مصلحة البلاد على الاعتبارات الأخرى، لكن إعدام سالمين كان دلالة سيئة، لأنه أول حادث تصفيةٍ جسديةٍ لأحد قادة الجبهة القومية التاريخيين، وكانت بمثابة البداية لاعتماد مثل هذا الأسلوب في تصفية الحسابات السياسية في اليمن.
لم ينتظر علي ناصر وقتاً طويلاً حتى شرع في ممارسة الفردية القاتلة التي قادت إلى أخطاء فادحة
ماذا كانت الآثار المباشرة لإعدامه؟
هناك من يعتقد أن سالمين دفع ثمن موقفه المتحفّظ على بناء علاقة استراتيجية مع الاتحاد السوفييتي. فهو كان يسير وفق توازن مع المحيط الإقليمي (السعودية)، والعربي (مصر)، والدولي (الاتحاد السوفييتي والصين). لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن اعتماده على الأتباع وتجاوز الحزب والدولة، كان الفاتحة في بدء الفساد وسوء الإدارة، ولم ينته الأمر بإعدام سالمين، بل تلاه طرد أتباعه من الجبهة القومية، ومن ثم بدأ الخلاف على الفور بين الاتجاهين اللذَين تحالفا ضدّه، وسرعان ما بدأت الخلافات بيننا وبين عبد الفتّاح إسماعيل بعد إعدام سالمين مباشرة. هم رشّحوا علي باذيب لمنصب رئيس الدولة، الأمر الذي يرجّح الرغبة السوفييتية، لأنه كان مسؤول الحزب الشيوعي – الجناح السوفييتي. وعلامة على الثقة الفائقة بالنفس، وثقل الدور الخارجي، احتفل الرفاق بتنصيبه قبل أن نحسم الأمر داخل الأطر والهيئات، ما أصاب بعضهم بالصدمة. لذلك بدأ الحديث عن ترتيباتٍ وسيناريوهاتٍ مرسومةٍ في الخارج، وعقدنا اجتماعاً في اليوم التالي. وبعد مشادّة جرى استبعاد باذيب، وأدّى ذلك إلى فتح باب الصراع بين عبد الفتّاح وعلي ناصر محمّد.
بعد يومين من النقاشات، توصلنا إلى تسويةٍ بتعيين عبد الفتّاح رئيساً للدولة وأميناً عاماً للحزب، وعلي ناصر محمّد رئيساً لمجلس الوزراء. وكان الاتجاه الأول على صلةٍ بالسوفييت، في حين أن الاتجاه الثاني لم يكن على صلةٍ بأحد. وفي ذلك العام، تسلّمت إلى جانب عملي في سكرتارية مجلس الشعب مهمّة الدائرة الحزبية في سكرتارية اللجنة المركزية، بدلاً من محمّد صالح عباد (مقبل)، الذي دخل السجن بسبب موقفه إلى جانب سالمين، لأنه حصلت عملية تطهير للحزب قبل أن نستعدّ لعقد المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي اليمني، الذي التأم في عدن بين 11و13 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1978، وشمل التطهير جميع القيادات المحسوية على سالمين.
عبد الفتّاح إسماعيل ليس رجل حكم ولم يدرك أن الحرب قد تبدأ بطلقة لتشعل السهل
علي ناصر محمد، 1/ 1/ 1986 (فرانس برس)
علي ناصر محمد (1/1/1986 فرانس برس)
هل عقدتم المؤتمر في أجواء الخلاف؟
أعدّت الدائرة الحزبية التي أشرفت عليها للمؤتمر. لذلك أستطيع القول إن الخلافات بدأت تظهر في صورة أوضح بين مجموعتنا والتيّار الذي يمثّله عبد الفتّاح، ويضم عشيش، وعبد العزيز عبد الولي، ومحمّد سعيد عبد الله (محسن)، ومحمّد صالح مطيع. ومن سمات هذه المرحلة دخول جهاز أمن الدولة في خطّ العمل السياسي، وأخذ ينتفي الطابع العفوي للصراع، وصارت تظهر أيادٍ كثيرة تعمل للتخلّص من كلّ الذين ألصقت بهم تهم الماوية والتروتسكية والفلاحية، على أساس أن الخطّ الرسمي هو الماركسية اللينينية والاشتراكية العلمية والتحوّل السلمي، وكان الهدف من اقتراح باذيب للرئاسة إرسال رسالة واضحة المعالم إلى السوفييت، وبدأ الخبراء الألمان والسوفييت العمل في جميع المجالات، وانصبّت جهودهم على التشويش وتشويه سمعة التيّارات غير المنضوية داخل الخطّ السوفييتي، لكننا في الحقيقة لم نتأثّر بهذا التخريب المنهجي، لأننا كنّا نستمدّ رصيدنا من القواعد والجيش والمحافظات، أبين وشبوة، وحضرموت التي لعبت دوراً أساساً في جميع الانعطافات، وكانت دائماً بمثابة بيضة القبّان التي ترجّح الكفّة. يُضاف إلى ذلك أن صلتنا بالناس بقيت قوية وراسخة، ووثّقها عدم انغماسنا في امتيازات السلطة ومغرياتها. بقينا مجموعةً واحدةً بعيدةً عن البذخ، قاسمها المشترك الاستقامة.
أياد كثيرة عملت للتخلّص ممن ألصقت بهم تهم الماوية والتروتسكية والفلاحية
هل برزت ردّات فعل على الحضور الأجنبي؟
سرى نوعٌ من التذمّر، ثم بدأت الأصوات تتعالى داخل الأوساط القيادية بالحديث عن هذه المسألة. شاع في محيطنا خطابٌ فحواه أن مشاركة الرفاق التقدّميين من أمثال باذيب، من شيوعيين وغير شيوعيين، في هذه التجربة، أمر مشروع، لكنّه مرفوض أن يسعى بعضهم إلى تحويلنا عملاءَ لموسكو، وأخذنا نستشعر ونشتمّ رائحة ما هو أبعد، أي العمل المنظّم من أجل تطويع هذا النظام. ومن هنا صنّف السوفييت الناس في خانات: التقدّمي والرجعي والمتخلّف. كل من هو قريب من عبد الفتّاح إسماعيل تقدّمي، وما عداه متخلّف. تصدُر هذه التقييمات على هذا النحو، وعلى نحو سرّي وتشيع في الشارع، ويطلقها الخبراء خلال الجلسات مع الكوادر، أو في أثناء تنظيم الحفلات والأسفار إلى موسكو، والأطرف أن الألمان كانوا يقولون عنّا إن هذه المجموعة بدأت بداية ماركسية، ثم تبيّن أنه ليس في وسعها استيعاب النظرية والقدرة على التطوّر.
في هذه الأثناء، وبعد أشهر على إعدام سالمين اندلعت الحرب الثالثة بين الجنوب والشمال في 24 فبراير/ شباط من عام 1979، ما هي الملابسات؟
وجدنا أنفسنا فجأة في حربٍ مع الشمال، ومن دون أيّ دراسةٍ أو تحضيرٍ أو سببٍ مقنع. كان دويّ المدافع يصمّ الآذان، وانتقلنا من نكتة المدفع الصغير إلى اشتباكات المدافع الثقيلة، البعيدة المدى. وحين تطوّر الأمر، اجتمعنا في المكتب السياسي، وطرحنا السؤال حول مسؤولية تفجير الموقف والأسباب الكامنة وراءه، ولم يقدّم أحد إجابة مقنعة. وقبل أن نعالج الموقف، ولأن عبد الفتّاح إسماعيل وجماعته كانوا أغلبيةً في الهيئات، استقرّ الرأي على مواصلة الحرب. والأدهى من ذلك أنهم لم ينزلوا إلى جبهات القتال، بل أشعلوها، وجلسوا يتفرّجون، وكان علينا أن نتحرّك، رغم اعتراضاتنا على تلك الحرب، وبعضها مُسجَّلٌ ومكتوب، كي ننفذ التكليفات.
كلفتني القيادة بالإشراف على جبهة البيضاء، لودر، مكيراس، التي كان يقودها بن حسينون. وبسبب ذلك، كان الموقف جيّداً، في حين أنه كان مقلقاً في جبهة الضالع، التي كلّف الإشراف عليها قاسم عبد الربّ. وأذكر أننا توغّلنا في إحدى المرّات حتى مطار درب دينار الذي يبعد 27 كيلومتراً من محافظة البيضاء شمالاً، وغير بعيد من صنعاء، وكان برفقتي كلّ من محمّد علي أحمد وسليمان ناصر مسعود. وعلمت بعد ذلك أن علي عبد الله صالح كان هناك وانسحب مسافة 30 كيلومتراً في منطقة شعب الدقيق. وبسبب مصاعب جبهة الضالع التحق بها بن حسينون، وحلّت مكانه في البيضاء. وبعد وقت قصير، تمكّن من تعزيز الجبهة، ساعده على ذلك أنه عسكري ميداني متمرّس، حاسم وشجاع، وذو شخصية قيادية، ولا يؤمن بالشللية.
لم تدم هذه الحرب طويلاً، فقد نشطت الوساطات وحصل وقف إطلاق نار، أدّى، في خاتمة المطاف، إلى لقاء الكويت بين عبد الفتّاح إسماعيل وعلي عبد الله صالح في أواخر مارس/ آذار. وناقشنا المسألة داخل المكتب السياسي للحزب، وتمسّك عبد الفتّاح برواية الأسلحة الخفية والمدفع الصغير ليرمي المسؤولية عن ظهره، وألقاها في اتجاه صالح مصلح. أراد أن يقول إنه أعطى الموافقة على شأن صغير، وليس خوض حربٍ كبيرةٍ استدعت تدخّل جامعة الدول العربية التي شكلت لجنة وساطة. أقدّر شخصياً أن عبد الفتّاح لم يكن يدرك أن الحرب قد تبدأ بطلقة لتشعل السهل بأكمله، وقد برهن بذلك على أنه ليس رجل حكم. ولكون هذا الاستنتاج استقرّ لدى كثيرين، عادت الصراعات حول الحكم، وصار دأب عبد الفتّاح منصبّاً كذلك على التخلّص من فريقنا، لكن علي ناصر عاجله، فعمل على التخلّص منه، وأبعده إلى موسكو في 26 يوليو/ تموز عام 1980.
إعدام محمّد صالح مطيع علامة سوداء في سجلّ علي ناصر
جرى إبعاد عبد الفتّاح إسماعيل وانتخاب علي ناصر في مؤتمر الحزب، بعملية تشبه الانقلاب؟
تفاعلت قضية الحرب والنتائج التي أسفرت عنها على صعيد لقاء الكويت، وأدّت إلى إحداث هزّة كبيرة وانقسامات جديدة في الجنوب، وبرز هناك من يتحدّث عن عقد عبد الفتّاح الشمالي صفقة مع الشمال على حساب الجنوب، وأدّى هذا الجو إلى استنفار قطاع واسع ضدّه، ما حال دون اجتماعه مع علي عبد الله صالح في الشريجة، بمبرّر وجود معلومات بتعرّض عبد الفتّاح للاغتيال، وهو أدرك (في حينه) أنه لن يكون في وسعه مواصلة التنسيق مع الشمال. وفي هذا الوقت، كان الحزب الاشتراكي يستعدّ لعقد مؤتمر استثنائي، وهو ما جرى في 14 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1980، وجرى خلاله تتويج علي ناصر أميناً عاماً، ورئيساً لهيئة مجلس الشعب الأعلى، ورئيساً لمجلس الوزراء، في حين لم يغيّر من البرنامج والثوابت. وكان الجديد رسم السياسة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والاتجاهات والمؤشّرات الرئيسة للخطّة الخمسية ما بين 1981 و1985. أمّا بصدد العلاقة مع الشمال، فقد أكّد أن موقفه من العمل المسلّح يندرج في إطار الدفاع عن النفس، وتبنّى سياسة السير في اتجاه الوحدة، وتحقيقها على مراحل، بدلاً من اتفاق الكويت الذي ثبّت الخطوات التنفيذية من أجل تحقيق الوحدة بتوقيع الدستور، ثمّ عرْضه على الاستفتاء، وكان لقاء علي ناصر مع علي عبد الله صالح لاحقاً، في إطار سياسة الخطوة خطوة.
علي ناصر محمد (يمين) وعبد الفتاح إسماعيل وسالم ربيّع علي (مواقع يمنية/فيسبوك)
علي ناصر محمّد (يمين) وعبد الفتّاح إسماعيل وسالم ربيّع علي (مواقع يمنية)
لكن المؤتمر انعقد في جوٍّ محتقن بالخلافات؟
نعم. اقترحتُ في منزل علي ناصر، وبحضور نايف حواتمة، أن ننسحب جميعاً من المكتب السياسي بسبب مشاركتنا في صراعاتٍ سابقة، من أجل فتح صفحة جديدة من خلال ترك أجيال أخرى من الرفاق تصعد إلى مواقع القيادة لتأخذ مكاننا. ومن موقعي في الإشراف على الدائرة الحزبية التي تعدّ للمؤتمر، طرحت هذا الاقتراح، وجرت الموافقة عليه، وقد أثلج الأمر صدر علي ناصر، الذي كان قد بدأ مسيرة الصعود، لكنّه أصاب التيّار الثاني بالصدمة. ويمكن القول إن فاتحة صراع بين علي ناصر والآخرين بدأت هناك، وهو لم ينتظر وقتاً طويلاً حتى شرع في ممارسة الفردية القاتلة التي قادت إلى أخطاء فادحة بعد ذلك. وبعد نجاحه في إبعاد عبد الفتّاح إسماعيل، أخذ يعمل على تحجيم بقية الصفّ القيادي، لذا لم يكتفِ بقرار إبعادي عن المكتب السياسي، بل إنه في يناير/ كانون الثاني من عام 1981 عمد إلى محاصرتي، وطردي من اللجنة المركزية. ولم يطل الوقت حتى شرع، في مرحلة أولى، بتصفية العناصر القيادية المحسوبة على عبد الفتّاح، فأقصى محمّد سعيد عبد الله (مُحسن)، من موقعه وعيّنه سفيراً في هنغاريا، وأبعد عبد العزيز عبد الولي (عضو المكتب السياسي وزير الصناعة والتجارة)، ليموت في ألمانيا، وبعد ذلك أعدم محمّد صالح مطيع (وزير الخارجية)، وطُرِدت عائدة يافعي (رئيسة الاتحاد النسائي)، من اللجنة المركزية، وواجه كثيرون أوضاعاً صعبة. وكان إعدام مطيع عام 1981 الأكثر شناعةً في سلسلة الأعمال التصفوية في هذه الفترة، ولا سيّما أن التهمة التي لفّقت له لم تكن تستدعي هذا النوع من العقاب، أشاعوا عنه إقامة علاقات مع السعودية، وهذا شأنٌ بات معروفاً، وبدأ في صورة رسمية في فترة حكم سالمين، واستمرّ ، ثمّ إن علي ناصر نفسه لم يكن ضدّ الصلة مع السعودية، بل على العكس، فقد كانت هذه النقطة في جدول أعماله مثلما تبيّن لاحقاً. وهنا لا بدّ من التوقّف أمام نقطة تتعلّق بالعلاقات الإنسانية والصلات الشخصية بين الناس، وما يترتّب عليها من بناء ثقة ومودّة ووفاء، لا يمكن فصم عراها مهما بلغت مغريات السلطة قوةً وتأثيراً. فمن المعروف أنه كانت تربط علي ناصر ومطيع علاقةٌ شخصيةٌ، وكانا يسهران معاً، ولا يغادر مطيع علي ناصر إلا ليذهب إلى النوم، وهذا يعني أنهما يتحدّثان ويتسامران، لذا يظلّ إعدام مطيع علامةً سوداءَ في سجلّ علي ناصر. وقد تبيّن من مصادر مختلفة أن علي ناصر اتصل بوزير الدفاع صالح مصلح بعد خروج مطيع من عنده، فأخذوا مطيع وأعدموه، ثمّ أصدروا تعميماً حزبياً يقول إنه أُعدِم لأنه كان يتآمر مع السعودية!
كانت الصورة باعثة على الأسى، والانقسامات مُحزنة، أبين وشبوة من جهة، وبقية أجزاء البلد من الأخرى
وماذا كان الموقف من ممارسات علي ناصر؟
هناك من سانده في البداية لضرب المجموعة المحسوبة على عبد الفتّاح إسماعيل، ويحضرني هنا مثال علي عنتر الذي عاد واختلف معه لاحقاً، لكنّي أتذكر جيّداً أن قرار إعدام مطيع أثار استياء كبيراً. حضر محافظ المهرة في حينه، وجلب لي نسخةً من التعميم الحزبي، كان التبرير مضحكاً، وهنا ضجّ الرفاق في القواعد، وبدأ عبد الفتّاح يقتنع بفكرة العودة من موسكو، وبناء تكتّل جديد ضدّ علي ناصر، الذي احتكر كلّ السلطات والمواقع العليا في الدولة (رئيس الدولة، أمين عام الحزب، رئيس مجلس وزراء). كما أن علي عنتر أخذ ينتبه ويصحو إلى خطورة نهج علي ناصر. وأذكر أننا في هذه الفترة استعدنا الصلة مع عبد الفتّاح. وبعد أن قطعنا شوطاً في التفاهم معه، قمنا داخل الهيئات بإقرار أمر عودته، ووافق علي ناصر نتيجةً لأمرَين: ضغط الإرادة الحزبية، وشعوره بالسيطرة على الموقف، وعدم خشيته من أيّ تهديد. وبالتالي، لم يكن لديه أيُّ مانع في عودة الناس من الخارج، لكن الموقف كان (في كلّ الأحوال)، مرتبكاً ومتشنّجاً. ورغم أن الإخراج استقرّ من الناحية الشكلية على تلك الصيغة، فإن مسألة عودة عبد الفتّاح لم تكن بالأمر السهل. وعلى سبيل المثال، لم يجرؤ أحد على استقباله حين وصل إلى مطار عدن في السابع من مارس/ آذار عام 1985، حتى قريبه فضل محسن لم يحضر إلا بعد مغادرة المطار، جاء ومعه محمود عبد الله عشيش (وزير وسفير)، وكنت الوحيد الذي ذهب لاستقباله، وصعدتُ إلى داخل الطائرة ورافقتُه حتى المنزل.
(Getty عبد الفتاح إسماعيل (1/9/1979
عبد الفتاح إسماعيل (1/9/197 Getty)
كيف كان الجو العام بعد عودة عبد الفتّاح إسماعيل؟
دخلنا في حواراتٍ واسعة وساخنة حول القضايا كلّها. كانت هذه الفترة غنيةً وواعدةً، لأنه جرى خلالها تناول شتى المجالات وسط شعورنا بنضوج التجربة، وضرورة تدارك أخطائها وتجنيبها الهزّات من جديد، غير أن هذا الوضع لم يناسب علي ناصر، وبدأ يخامره شعورٌ بأن العمل يجري لسحب البساط من تحت قدمَيه، في حين أنه لم يكن هناك أيُّ توجّه لإطاحته، بل على العكس، كنا نحاول أن نتقدّم نحو عقلنة التجربة، وتخليصها من شوائب الفردية، وتغليب منطق الأكثرية، ومثال ذلك واضح وصريح، وحتى عبد الفتّاح الذي كان رئيساً للدولة قبل العمل من جديد في دائرة حزبية عادية. ولكن الارتياح لم يبدُ على علي ناصر، واستمرّ في عملية إحكام قبضته، فأبعد علي عنتر من وزارة الدفاع، وعيّنه نائباً له، وأحلّ مكانه صالح مصلح من دون أن يعلم أنهما على اتفاقٍ وليسا على شقاقٍ كما كان يظن، لكنّه بدأ يدرك ويستوعب أكثر فأكثر التطوّرات الحاصلة، حين وقف على نتائج الانتخابات الحزبية في المحافظات في إطار التحضير للمؤتمر الثاني للحزب الذي عقدناه في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1985، وأدرك، حينها، أنه بدأ يخسر، بسبب فرديته وسلوكه التسلّطي.
كان الجو متوتّراً، لكن الهدف، من طرفنا، وكما أشرت، كان تجنّب الصدام العسكري، فبعدما بدأت الأسئلة والقضايا تنضج في أذهاننا، صار همّنا مرتكزاً على ضرورة حسم الخلافات داخل الهيئات في صورة ديمقراطية، ومن خلال الاحتكام إلى رأي الأكثرية، وفي الوقت ذاته، إدانة كلّ لجوء إلى الضغط والقوة، لا سيّما محاولات استخدام النفوذ وسلطة الدولة، أو توظيف العصبية والشللية، ولكن هذا لا ينفي حضورنا داخل المؤسّسات الأخرى بعيداً من الحزبيّة مثل الجيش. وعلى سبيل المثال، كسر علي عنتر، الذي أبعده علي ناصر عن وزارة الدفاع وعيّنه نائباً له، هذا الطوق، وبقي على صلة بأوساط الجيش، وظلّ مؤثّراً وحاضراً داخل هذه المؤسّسة التي تربّى فيها، ويعرفها أكثر من أيّ قيادي آخر.
هل هناك من حاولوا تهدئة الموقف؟
أذكر أنني قصدت محمّد علي أحمد، الذي تربطني به صداقة، وكان في حينه إلى صفّ علي ناصر، وهو محافظ لمدينة أبين. قلتُ له: لا داعي لأن يستنفر السلاح، ويجري التهديد به على هذا النحو. وكان ردّه: إذا أخطأوا سوف نخطئ. ومعنى ذلك أن الجو لم يكن صالحاً لأيّ حوار، بما في ذلك الاحتكام إلى العلاقات الشخصية، بل كان يثير النكد، وأبعد ما يكون عن الاعتبارات والقيم النضالية. كانت الصورة باعثة على الأسى، والانقسامات مُحزنة، أبين وشبوة من جهة، وبقية أجزاء البلد من الأخرى. وقد ساعد حضور الإخوة من لبنان وفلسطين: جورج حاوي ونديم عبد الصمد وجورج حبش ونايف حواتمة، على خروج المؤتمر بتسوياتٍ مؤقّتة، ولم يجر مسّ القضايا الأساسية التي كانت مثار الخلاف. لذلك، من المؤسف أن الموقف انفجر لاحقاً. وإذ أقول ذلك اليوم، فإني لم أتزحزح عن هذه الرؤية، فالقضية كانت عاديةً، يمكن حسمها بسهولة من دون اللجوء إلى السلاح.
المصدر :العربي الجديد